ثورة 25 يناير.. قصة قصيرة
قبل تنحى حسنى مبارك كرئيس جمهورية ببضع سنوات، بدأت الحملة التى شنها أنصاره للتمهيد لتوريث الحكم لابنه جمال، وقلق الناس قلقا شديدا من أن يتحول هذا المخطط الشيطانى إلى حقيقة: أن يأتى بعد هذا الحكم الفاسد الطويل الذى استمر أكثر من ربع قرن، حكم آخر يشبهه قد يستمر مدة مماثلة أو أطول بسبب صغر سن الابن. سُئل حسنى مبارك حينئذ أكثر من مرة، عما إذا كانت فكرة التوريث حقيقية، وكان يجيب دائما إجابات تثير الغيظ، منها قوله إن ابنه لم يحادثه فى الأمر، أو أن هذا الكلام سابق لأوانه.. إلخ.
مثل هذه الإجابات جاءت فى حوارات منشورة بالصحف وتداولتها وسائل الإعلام، ولكن كانت هناك إجابة أخرى، أكثر إثارة للحنق والغيظ، سمعها بعض المقربين منه، وتداولها الناس أيضا وإن لم تنشر فى وسائل الإعلام وأنا شخصيا أصدق صدورها عنه لأنها تتفق مع طريقته فى الكلام والتفكير، التى ظهرت فى عشرات الأحاديث والتعليقات المنقولة عنه، سواء ما نشر منها وما لم ينشر.
رُوى عنه أنه قال عندما سئل عن حقيقة مشروع التوريث: «وما الذى تظنون أنى أرغب فى توريثه له؟ إنها خرابة!».
كانت هذه الجملة تشبه مثلا تعليقه على عزم بعض فئات المعارضة إنشاء برلمان مواز، بعد انتخابات 2010 الأخيرة التى زورت تزويرا كاملا، إذ اكتفى بقوله: «خليهم يتسلوا!» كما يتفق هذا التعليق وذاك مع موقفه من حادث غرق العبارة الذى أودى بحياة أكثر من ألف مصرى أثناء عودتهم من السعودية، إذ لم يجد ضرورة للذهاب إلى مكان الحادث ولا صدرت عنه كلمة لتعزية أهالى الضحايا، بل ذهب بعد الحادث مباشرة للتفرج على مباراة لكرة القدم.
ويتفق مع موقفه من أحداث العنف بين المصريين والجزائريين فى أعقاب مباراة أخرى لكرة القدم، إذ لم يبد منه ما يدل على أى قلق لما يمكن أن يحدث من تدهور فى علاقة مصر بالجزائر.. إلخ.
كان رجلا مدهشا من أكثر من ناحية. ضعيف القدرة على الإحساس بما يشعر به المصريون، وعاجزا عن التمييز بين حادث عابر ومصيبة قومية، ولا يفهم أنه إذا كانت مصر قد أصبحت «خرابة» بالفعل، فلابد أن يكون هو المسئول الأول عن ذلك، سواء قام بتوريثها لابنه أو لم يقم.
ولكن لابد من الاعتراف، بعد كل هذا، بأنه لو كان مخطط التوريث قد تم بالفعل، لكانت حالة مصر، عندما يتسلمها الوريث، قريبة فعلا من حالة الأرض الخراب.
ذلك أنه منذ أن تم التنحى بالفعل فى 11 فبراير الماضى، لم تنقطع الاكتشافات عن أشياء غاية فى السوء، لم نكن ندرى بها قبل التنحى، أو لم نكن نتصور أنها على هذه الدرجة من السوء.
فلم يمض يوم أو يومان على شعورنا بأن الثورة قد حققت غرضها الأساسى، حتى تفجرت مظاهرات من عمال وموظفين ومهنيين يطالبون بتحسين أحوالهم. وفى كل مظاهرة أعلن المتظاهرون عن وقائع فساد يعرفونها، ويستطيعون إثباتها بسهولة، ويطالبون بسببها بعزل رئيسهم.
ثم تفجرت مطالبات فى الدور الصحفية والتليفزيونية بعزل رؤسائها وكشفت عن تجاوزات خطيرة فى استعمال السلطة فى هذه المؤسسات، وعن فروق خيالية يصعب أن يتصورها العقل بين ما يتقاضاه بعض المحظوظين من المقربين لرئيس الصحيفة أو التليفزيون، وبين سائر الموظفين.
ثم اشتعلت حرائق فى مراكز أمن الدولة فى أماكن متفرقة من مصر، قيل إن الغرض منها التخلص من وثائق خطيرة، تتضمن وقائع تعذيب وتلصص غير مشروع على الناس. ثم قامت مظاهرات واعتصامات فى إحدى الكليات الجامعية تطالب بعزل العميد فورا بسبب انتمائه لبعض مراكز الفساد فى العهد البائد، وعدم جواز استمراره عميدا بعد أن سقط ذلك العهد.
وما إن سمع الطلبة والموظفون فى كليات جامعة أخرى عما فعله الطلبة فى الكلية الأولى حتى تظاهروا بدورهم لأسباب مماثلة، ثم تصاعدت المطالبات إلى طلب عزل مديرى الجامعات لنفس الأسباب.
شعر بعض من أصابتهم أضرار شديدة من مسئول أو آخر من المسئولين فى العهد القديم فأن هذه هى فرصتهم للمطالبة بحقوقهم الضائعة، إذ مادام الجميع يتظاهرون ويطالبون، فلماذا يسكتون هم ولا يطرقون الحديد وهو ساخن؟ هكذا تجمع فى كل يوم أمام رئاسة مجلس الوزراء ومجلس الشعب مجموعات مختلفة من الرجال أو النساء، يطالبون إما بالتعيين أو التثبيت بعد طول الإصرار على إعطائهم عقودا مؤقتة، لا تعطيهم حقا فى المعاش أو التأمين الصحى، أو يطالبون بالالتفاف إلى حقوق المعاقين، أو بإنشاء طريق طال الوعد به دون أن ينشأ.. إلخ.
أثناء ذلك وقع حريق فى كنيسة بقرية أطفيح فاحتج الأقباط بشدة، وطالبوا جهات الأمن بالقبض على الجناة، وبإعادة بناء الكنيسة ثم توالت حوادث الشجار بين مسلمين وأقباط قتل فيها البعض، وقطعت أذن لأحد الأقباط.. إلخ ثم تعدد تبادل الإهانات بين المسلمين والأقباط، فخطب أحد السلفيين واصفا التصويت على تعديل الدستور، بأنه يشبه الغزوات الإسلامية الأولى، ودعا من لا يعجبه انتصار الموافقين على التعديلات الدستورية على المعترضين، إلى ترك الأرض المصرية والهجرة إلى بلاد أخرى إذا شاءوا.
ثم صدرت تعيينات المحافظين الجدد فاعترض أهل قنا على محافظهم الجديد بسبب ما اعتبروه تاريخا غير مشرف ومعاديا لأهداف الثورة، وامتد غضبهم إلى حد قطع خط السكك الحديدية بين قنا والأقصر، وعجز قنا عن الحصول على بعض الضروريات التى تأتيها من محافظات أخرى وأثناء ذلك تصارع أحد المتظاهرين فقال إن سبب عدم الرضا على المحافظ الجديد أنه قبطى، وأنهم يريدون محافظا مسلما بدلا منه.
لم يعد إذن يحل يوم جديد حتى تقرأ فى الصحف وتسمع وترى فى التليفزيون عن مظاهرة جديدة، أو شجار جديد، أو عن حادث جديد للفتنة الطائفية، أو عن بلاغ عن واقعة فساد جديدة لم تكن معروفة من قبل، أو إضافة اسم جديد للتحفظ عليهم أو الممنوعين من السفر، أو إلى من جرى اعتقاله بالفعل بسبب نوع آخر من الفساد والتبديد... إلخ.
●●●
طرأت بذهنى الصورة المفزعة الآتية: رجل كان يملك قصرا بديعا ورثه عن أجداده الأثرياء، واسع الأرجاء، وتحيطه حديقة غناء، ومؤثث تأثيثا رائعا، ويعيش فيه مع زوجته وأولاده، ولكن اضطرته ظروف غير متوقعة إلى تأجيره لبضع سنوات لمستأجر لم يكن معروفا له من قبل، ثم ظهر أن له مشروعا شيطانيا ينطوى على تحويل القصر إلى مصدر ربح وفير له، ولو اقتضى الأمر تحويل القصر إلى خرابة. فبمجرد أن وضع المستأجر يده على القصر حتى بدأ يتخذ من الإجراءات ما من شأنه أن يمنع المالك إلى الأبد من العودة إلى بيته.
واستعان فى ذلك بمجموعة من المحامين قليلى الذمة، قادرين على تزوير أى عقد، كما استورد عددا من كلاب الحراسة شبه المتوحشة للقفز على أى شخص يحاول الاقتراب من البيت.
ثم بدأ تنفيذ المشروع الشيطانى، إذ بينما احتفظ المستأجر لنفسه بالدور العلوى، قسم القصر إلى غرف وأجنحة لكل منها دورة مياه خاصة، وقام بتأجير كل منها لعائلة مستقلة ثم قام ببناء عدد من المحال فى حديقة القصر وأجرها لمن يريد استغلالها كمحل تجارى أو مقهى أو مطعم. أما شرفات القصر، فقد طرحها فى مزاد علنى لكل من يرغب فى استغلال موقع القصر المتميز للإعلان عن بضاعته، فظهرت على الشرفات إعلانات عن سلع مثل فودافون، أو عن ألبوم جديد لنانسى عجرم.. إلخ.
ثم خطر للمستأجر مخطط جهنمى آخر هو تقسيم الدور الأرضى إلى جناحين، أجر أحدهما لجمعية دينية إسلامية، والآخر لجمعية قبطية، وسمح لكل منهما بتركيب ميكروفون مثبت فى اتجاه الجناح الآخر، ليذيع ما يشاء من خطب وشعائر دينية، أشعلت نيران الكراهية لدى كل منهما تجاه الآخر، وأدت إلى مشاحنات مستمرة بينهما، فيتدخل المستأجر فى الوقت المناسب لتقاضى الإتاوات من كل منهما بدعوى حمايته من مخطط شرير يزمع جاره تنفيذه واستمر الجاران فى دفع الإتاوة صاغرين، رغم عدم اقتناعهم الكامل بحسن نية الرجل.
أما بقية الحجرات والأجنحة فقد جرى تأجيرها لأشخاص سيئى السمعة، كانوا على استعداد لدفع إيجارات عالية لرفض أصحاب البيوت الأخرى تأجيرها لهم، بسبب سوء سمعتهم. كان هؤلاء يستقبلون فى أجنحتهم رجالا ونساء من كل نوع، ينام معظمهم بالنهار ويسهرون بالليل. وكان سكان البيوت المجاورة يستيقظون أحيانا فزعين، فى وسط الليل، على أصوات ضحكات ماجنة تأتى من سكان هذا القصر وزوارهم، ويرون زجاجات الخمر تلقى من الشرفات، وبقايا الأطعمة ملقاة فى الحديقة، فضلا عما كانوا يشاهدون من مناظر منافية للحياء من خلال النوافذ المفتوحة.
شيئا فشيئا تحولت الحديقة التى كانت تحيط بالقصر إلى خرابة، وبدأت روائح كريهة تفوح منه إلى البيوت المجاورة دون أن يعرف بالضبط سببها، وإن لم يكن هناك أى شك فى أنها تنبعث كلها من هذا البيت الذى كان فى يوم من الأيام قصرا فتحول إلى مجموعة من المطاعم والمقاهى والمحال التجارية، وبيوت الدعارة وإن كانت تسمع بين الحين والآخر فى ساعات مختلفة من النهار والليل، أصوات تأتى من الميكروفونات تدعو إلى التعبد وإقامة شعائر الدين الإسلامى مرة والمسيحى مرة أخرى.
قرر السكان المحيطون بهذا البيت أنه لابد أن يكون لكل هذا نهاية، فشكلوا وفدا منهم ذهب إلى المالك الذى كان قد عاد هو وأسرته من الخارج وسكن فى مكان قريب، دون أن يجرؤ على الاقتراب من منزله بسبب الكلاب المتوحشة.
قال لهم إنه فعل المستحيل لاسترداد قصره دون جدوى.. فالمحامون الذين لجأ إليهم أخبروه بأن المستأجر قد فعل كل شىء، من أول يوم وضع فيه قدمه بالبيت، لضمان استمرار بقائه فيه طوال حياته ثم نقل الحق فيه إلى ابنه ثم إلى حفيده من بعده.
لقد حرر له محاموه الخصوصيون عقودا مزورة تضمن كل هذا، كما تسمح باستغلال البيت على النحو الذى وصفناه، فلما طعن المالك فى ذلك وجد أن القاضى الذى عرض عليه الأمر كان هو نفسه واحدا من المستأجرين.
لم يكن هناك من وسيلة إلا تهديد سكان القصر كلهم، بمن فيهم المستأجر وإشعال حريق سوف يلتهمهم جميعا إذا لم يغادروا القصر فى الحال.
وبدأ تنفيذ التهديد فاستهان المستأجر وسكانه بالأمر فى البداية، واعتبروه من قبيل أضغاث أحلام مجموعة من الشباب صغار السن. ولكن تغير الحال تماما عندما هاجمت الكلاب المتوحشة مجموعة من الشباب المهاجمين عند اقترابهم من القصر وقتلتهم، فإذا بباقى المتجمهرين يستمرون فى التحرك نحو البيت حاملين مشاعل يريدون بها إحراق القصر بمن فيه.
لا داعى للخوض فى تفاصيل ما حدث بعد ذلك، فقد انتهت القصة نهاية سعيدة «أو هذا على الأقل هو ما بدا فى البداية» فقد فر السكان والمستأجر عن بكرة أبيهم، واقتحم المالك قصره ودخله هو وزوجته وأولاده لأول مرة بعد سنوات طويلة.
من الممكن أن نتصور الفرح الذى شعر به المالك وأسرته، بل أهل الحى كله، ولكن جاءت الصدمة الأولى بمجرد أن وضعت الأسرة أقدامها فى الصالة الرئيسية. فبدلا من الأثاث الفاخر الذى كانوا قد تركوه فيها لم يجدوا إلا قاعة خالية تماما، بل حتى خشب الأرضية البديع، الذى وضع تصميمه فنان شهير، اكتشفوا أنه قد نزع من مكانه فلم يظهر إلا أرضية من الأسمنت القبيح. واللوحات الفنية المبهرة التى كانت تزدان بها حوائط الصالة، لم يجدوا منها إلا لوحة واحدة بهتت ألوانها، وظهرت عليها بقع كبيرة سوداء، كما استبدل ببراوزها الثمين بروازا من الصفيح.
عندما وضع مالك القصر يده المرتعشة على مقبض إحدى الحجرات وهو متوجس مما يمكن أن يجده فيها، كان أول ما قبله رأس ثعبان طويل كان رابضا وراء الباب ينتظر فتحه، أغلق الباب بسرعة، وجرّب غرفة أخرى فإذا به يواجه بهجوم عدد من القطط التى بدا أنها كانت محبوسة فى الغرفة لمدة طويلة وأصابها التوحش بسبب الجوع. عاد فأغلق الباب بسرعة، إذ لم يعد لديه الآن أى شك فى أن القصر قد تحول بالفعل إلى خرابة، وأن عليه أن يجلس هو وأسرته على الرصيف ريثما يتدبروا الأمر ويقرروا ما هم صانعون.
كان من المتوقع أن يكون لكل من الأولاد والبنات رأى مختلف عن آراء الآخرين فى طريقة إعادة القصر إلى رونقه القديم وإعادة تأثيثه، بحكم اختلاف السن والأمزجة، كما كان من الطبيعى أن يتعجل كل من الأولاد والبنات العودة إلى غرفته، بعد غياب طويل. ولكن عندما ظهر للأب مدى اختلاف الآراء، حتى كاد يصل إلى حد الشجار، وجد من الضرورى أن ينهر الجميع ويوقفهم عند حدهم.
إذ يجب الامتناع عن عمل أى شىء قبل أن يتم القضاء على الثعابين والتخلص من القطط المتوحشة.
صحيح أنه ليس من الحكمة فتح جميع الحجرات فى نفس الوقت، إذ من المستحيل السيطرة على كل ما يخرج منها من ثعابين وحشرات سامة، ولكن من الخطأ التام تصور أن الوقت وقت الاستماع لجميع الآراء وأخذ الأصوات.
بقلم:جلال أمين - الشروق
No comments:
Post a Comment