إنكار ما لا يُنكر
على طريقة أسامة بن لادن أذاعت قناة «العربية» السعودية شريطا مسجلا مجهول المصدر للرئيس السابق. أنكر فيه كل الاتهامات التى وجهت له ولزوجته وولديه علاء وجمال بالفساد المالى. ونفى أن يكون لأى منهم عقارات أو حسابات أو أرصدة فى الخارج. وأبدى استعداده لتقديم أى مستندات تمكن النائب العام من الكشف عن حسابات له فى الخارج.. لدحض حملات التشهير ضده وضد أسرته، على حد قوله.
ومن الطبيعى أن يكون من حق مبارك أن يدافع عن نفسه، وأن يتنصل من الاتهامات بالفساد المالى الموجهة إليه. وإذا كان مبارك قد التزم الصمت قرابة شهرين، أملا على الأرجح فى أن تتغير الظروف لصالحه ولا تكون ثمة حاجة للوقوف موقف المتهم الذى يطلب من قاضيه البراءة.. فإن إقدامه على الكلام الآن يحركه فى الأغلب شعور قوى بأن الحلقة أخذت تضيق حول عنقه، بعد أن سقط الأعوان والوزراء واحدا وراء الآخر فى قبضة القانون، وانكشف حجم جرائم الفساد المالى والسياسى التى قادوا البلاد إليها. وأخذت اعترافاتهم تتوالى بأنهم كانوا عبد المأمور. واتضح أن حجم ما نهبه كل واحد منهم وما اكتنزوه من أموال وفيللات وقصور لم يكن ليحدث لو لم تكن عين الرضا عن انحرافاتهم كليلة. وأن يتصادف ذلك فى الوقت الذى يستدعى فيه النائب العام الرئيس السابق للتحقيق معه، ويفتش جهاز الكسب غير المشروع عن ثروات أبنائه وزوجته!
لا تأتى الاتهامات الموجهة لمبارك من فراغ. فقد سارعت دول عديدة على رأسها سويسرا التى تضم خزائن بنوكها وحساباتها السرية مليارات الدولارات لزعماء ورؤساء وأثرياء من أنحاء العالم هربوا أموالهم إليها.. إلى الإعلان منذ اللحظات الأولى لخلع مبارك بأنها جمدت حساباته وأسرته فى بنوك سويسرا. والمعروف أن القانون الذى سنته سويسرا لاسترداد الثروات غير المشروعة لشخصيات سياسية، صدر بعد ضغوط شديدة من الولايات المتحدة الأمريكية فى سعيها لمصادرة وضبط أموال القاعدة والجماعات الإرهابية والجمعيات التى يشتبه فى تمويلها. واستفادت منه دول أوروبية عديدة فى مطاردة المتهربين من الضرائب وزعماء المافيا.
كما أصدرت بريطانيا قرارا مشابها بتجميد الأصول والحسابات الخاصة بمبارك وأسرته. وكشفت هيلارى كلينتون فى أثناء زيارة لها فى القاهرة أخيرا عن أن أموال وممتلكات الرئيس المخلوع قد جمدت فى عدد من الولايات الأمريكية. كما اتخذ الاتحاد الأوروبى قرارا مشابها يلزم أعضاءه بالإجراءات اللازمة لتجميد ممتلكات وحسابات الأسرة فى الدول الأوروبية.
لن يكون من السهل فى معظم الأحيان تتبع حسابات مبارك وأولاده المتناثرة فى بنوك ومصارف وشركات مختلفة فى أنحاء العالم. فهناك أساليب مصرفية معقدة لإخفاء ملكية هذه الحسابات. ويستدعى الأمر فى حالات كثيرة الاستعانة بخبراء ومكاتب دولية متخصصة للكشف عن هذه الأموال التى عادة ما تكون فى صورة أسهم وسندات بأسماء غير أسماء أصحابها الحقيقيين. وما نشرته «واشنطن بوست» عن كميات من الذهب المودع باسم مصر فى بنك الاحتياط الفيدرالى الأمريكى تم سحبها بواسطة جمال مبارك، يدل على أن استرجاع هذه المبالغ قد يستغرق سنوات وسنوات.
الأهم فى رأيى من الأموال التى هربت والحسابات التى أخفيت، هو ذلك الفساد السياسى الذى اقترن ودعم وزرع الفساد المالى. وكان من أهم مظاهره ما جرى من عمليات إبادة وقتل عشوائى ضد شباب الثورة. وترتب عليه سقوط أكثر من 800 قتيل بأوامر مباشرة صدرت من وزير الداخلية والرئيس المخلوع، وما أعقبه من انفلات أمنى وهروب المساجين وحالة الفوضى والذعر فى البلاد.
على أن هذا الفساد السياسى الأكبر، لا ينبغى أن يعمينا عن الفساد السياسى الأصغر الذى مارسته قيادات الحزب الوطنى بجدارة، فى تزوير الانتخابات وإساءة استغلال السلطة والتربح والتهريب والاستيلاء على أراضى الدولة وفرض الإتاوات.. مما أفسد الحياة العامة وجعل الرشوة قانونا من قوانينها. وهو ما يستدعى إصدار قانون يمنع مثل هذه العناصر من ممارسة الحياة السياسية.
إن البعض قد يضيق صدره كلما طالت فترة الملاحقة والتحقيق مع أركان العصابة التى حكمت مصر ثلاثين عاما. ولكن تصفية الأنظمة الديكتاتورية واقتلاعها من جذورها ليس بالأمر السهل، ولا يتم بين يوم وليلة. لابد من اتباع الإجراءات القانونية والتزام المعايير القضائية التى تكفل الوصول إلى الحق والحقيقة. وهو ما أثبتته تجارب سابقة من حكم الطغاة الذين أمضوا سنوات فى الحكم، استغرق سقوطهم ومحو آثارهم سنوات
بقلم:سلامة أحمد سلامة - الشروق
No comments:
Post a Comment