د . طارق الغزالى حرب
يعز علىّ كثيراً أن أقرأ وأسمع هذه الأيام مقالات وأحاديث كثيرة تهاجم، صراحة أو ضِمناً، أداء رئيس الوزراء د. عصام شرف ووزرائه. مبعث هذا الشعور عندى هو أننى كنت من المُتحمسين جداً للرجل، بل والمُرشحين اسمه لتولى المنصب من قبل، ودمعت عيناى، فرحاً وأنا أرى جماهير الشعب تحمله على الأعناق فى ميدان التحرير قبل أن يحلف اليمين، فى مشهد لا أعتقد أنه كان له مثيل فى التاريخ الحديث على مستوى العالم كله..
أحسست يومها أن هذا الرجل قد جاء إلى منصبه بما هو أعظم من أى طريقة أخرى تعرفها السياسة التقليدية.. فقد طرح اسمه الثوار والذى كان هو نفسه واحداً منهم، وتم الاستفتاء عليه بميدان التحرير، وظهرت النتيجة على الفور بأن رفعه المواطنون المصريون من مختلف الاتجاهات على أعناقهم وهتفوا له من قلوبهم.
لم أشك لحظة فى أن الرجل سيتصرف بكل الأمانة والنزاهة والأخلاق العالية لأنها من صفاته الأصيلة، لكننى توقعت يومها أيضاً أن الرجل سوف يتصرف بناءً على هذا السند والتفويض الشعبى العارم بمنتهى القوة والحزم والإصرار على تحقيق مطالب الثورة ومقاومة كل محاولات الالتفاف عليها. الدكتور شرف هتف معنا وسمع الملايين تهتف «الشعب يريد إسقاط النظام»..
والآن، وبعد ما يقرب من الشهرين فى موقعه، أريده أن يختلى بنفسه ويسألها فى لحظة صدق: هل أنا فعلاً أحقق مطلب الشعب فى إسقاط النظام والتطهير والتغيير، أم أننى– سواء بإرادتى أو رغماً عنى– ما زلت محافظاً على تركيبة وفكر وكثير من شخوص النظام المكروه والمرفوض شعبياً، وما قمت به حتى الآن لا يعدو إلا أن يكون إصلاحاً وتجميلا له بعد تنحية الرؤوس؟!
مطلب الثورة الشعبية العظيمة التى بهرت العالم واضح وضوح الشمس وهو إسقاط النظام العصابى الفاسد الفاشل المجرم بكل منظوماته وقوانينه ورجاله، وسرعة وحسم تقديم رموزه إلى المحاكمة، والقصاص العادل لكل ما ارتكبوه من جرائم فى حق هذا الشعب الصابر على مدى عقود.. لكن للأسف تحمل إلينا الأيام أنباء تثير القلق فى النفوس وتدفع إلى اليأس والقنوط..
فالأولويات ليست واضحة، والقيادات النظيفة الواعية التى يمكن أن تُعين رئيس الوزراء على فرض شروط الثورة وتحقيق أهدافها غائبة عنه، سواء تم ذلك بقصد، نتيجة نصائح بعض ذوى الأغراض الخبيثة حوله، والذين منهم حتى الآن من يترحم على أيام مبارك اللعينة ويتمنى عودتها وبالتالى عودة سطوتهم ومصالحهم ولو كان الثمن حرق أرض مصر كلها. الأمثلة عديدة على ما أقول ولكنى سأكتفى بثلاثة منها:
(١) اختيارات أعضاء وزارته واحتفاظه ببعض وجوه وزارة أحمد شفيق، التى يعرف بالتأكيد كيف تم اختيارهم وماذا كانت مهمتهم، مثل إبقائه فى منصب وزير المالية المهم على أحد رجال جمال مبارك فيما كان يُسمى بلجنة السياسات والذى عينه فى مجلس الشعب ليرأس لجنته الاقتصادية فيكون سهلا ليناً مع قرارات عصابة رجال أعماله، وها هو يبدأ مشواره بزيادة قروض مصر عشرة مليارات دولار!.. واختياره وزراء آخرين ليسوا على قدر عِظم المسؤولية المُلقاة على عاتقهم، مع الاحترام الكامل لشخوصهم مثل وزير الداخلية طيب القلب الذى لا تتحمل سنه الجهد المطلوب لإعادة بناء كيان انهار تماماً، بعد أن نخر السوس أساساته وقواعده.
(٢) الاحتفاظ بعملاء النظام السابق وأجهزة أمنه فى المواقع القيادية لمؤسسات وجهات تتعامل بالأساس مع الشباب الذى سرت فى أوصاله روح الثورة، بعد أن استنشق بالفعل نسائم الحرية فى ميدان التحرير، مثل المجلس الأعلى للشباب وكذلك الرياضة ورؤساء جامعات وعمداء كليات و بقايا رؤساء تحرير.. واختيار قيادات ضعيفة باهتة للجهاز الإعلامى الأهم.. وهو اتحاد الإذاعة والتليفزيون، مع الحرص على بقاء القيادات الفاسدة السابقة المتورطة مع النظام السابق فى كل جرائمه مُعززة مُكرمة
(٣) كارثة أو مهزلة تعيينات المحافظين الجدد، وهو ما سأعود إليه لاحقاً. إن كل مثل من الأمثلة الثلاثة التى ذكرتها نتج عنه كم هائل من المشاكل كنا فى غنى عنه إذا أحسنَّا تقدير الأمور، وربما كنا قد أضعنا الفرصة على المتآمرين والمتربصين ليعيثوا فى الأرض فساداً واضطراباً كما تبدو الصورة هذه الأيام. وبصراحة شديدة.. فإنه لا أحد من الشعب المصرى يفهم ما الأسس التى ينبنى عليها اختيار القيادات فى هذا البلد.. ويحار المرء:
هل تمت عملية بحث دقيق أمين عن شخصيات جديدة من خارج منظومة النظام الفاسد، تضع المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار أم لا؟!
وما أسباب إهداء منصب المحافظ لشخصيات عقيمة لم تكن فى مناصبها أثناء الحكم المباركى الفاسد إلا بسبب توصيات أجهزة أمنية متسلطة أو من أحد أفراد عائلة مبارك المُتحكمة أو قرابة أو صداقة لأحد الفاسدين الكبار، ولم يُعرف عن معظمهم أنهم- وهم فى مناصبهم- قد أنجزوا شيئاً ذا قيمة.. الغريب أن محافظى أهم ثلاث محافظات فى مصر، وهى القاهرة والجيزة والإسكندرية، قد تولاها شخصيات ممن ينطبق عليهم ما ذكرته تواً، ومنهم من كانوا مجرد تابعين مخلصين لأحد أركان الفساد فى النظام السابق.. المتهم محمد إبراهيم سليمان المحبوس بسجن طرة ! ما معنى هذا يا د. شرف ؟
ولماذا تم اتباع سُنن النظام الفاسد فى طريقة الاختيار؟.. بمعنى لماذا لا يكون هناك مثلا أكثر من شخصية مسيحية بين المحافظين تأكيدا لقيم المواطنة؟.. ولماذا لم يتم اختيار إمرأة مثقفة وذات شخصية قوية وتجربة سياسية للمنصب، تأكيداً لمبدأ المساواة؟.. وأين شباب مصر العظيم الذى استطاع تحريك ملايين المواطنين وتحميسهم للنزول إلى الشارع لإسقاط النظام من التعيينات فى هذه المناصب وغيرها فى الإدارات المحلية والشعبية؟..
لماذا نتمسك بالتفكير المُتحجر بقصر منصب المحافظ على المتقاعدين من لواءات الجيش والشرطة والمستشارين ورؤساء الجامعات؟! قد يبرر أحد هذه التعيينات الكارثية بأنها مؤقتة إلى حين تعديل القوانين لتكون هذه المناصب بالانتخاب فى المستقبل، وهو ما يؤيده الشعب المصرى ويطلبه، لكن حتى يأتى هذا الأمر فى حينه، وفى هذه المرحلة الانتقالية المهمة جداً فى تاريخ الثورة فإن الاختيارات كان يجب أن تكون باعثة للأمل بطرح وجوه جديدة نظيفة غير مُدنسة بالعمل فى خدمة نظام القهر والاستغلال، وتدين بالولاء للناس والوطن لا لمن يختارها.
إن الأولويات واضحة د. شرف، ولا يختلف عليها اثنان.. أولا: الأمن العام، ثانياً: دعم الاقتصاد، ثالثاً: محاصرة ومُجابهة كل من يحاول إذكاء الفتنة بين أفراد الشعب الواحد.. ثم يأتى بعد ذلك الحديث عن أى شىء آخر.. الدستور– الانتخابات– الديمقراطية– العدالة الاجتماعية.. وبالتالى فإن:
المطلوب، أولا، هو التعامل بمنتهى الجدية فى قضية الأمن العام حتى لو استدعى الأمر تغيير وزير الداخلية المحترم، وبالوزارة شخصيات كثيرة عظيمة وعلى قدر عال من الكفاءة، تم تجنيبها فى عهد الوزير الفاسد السابق، يمكن الاستعانة بها.. والبدء فوراً فى تدعيم جهاز الشرطة بأعداد كبيرة جديدة، وهناك اقتراحات عديدة قُدمت فى هذا المجال، وتوسيع جهاز مراقبة أداء الشرطة فى الأقسام المختلفة واتخاذ الإجراءات الحاسمة الرادعة فوراً مع المقصرين منهم، ولعل القصة، التى ذكرها الكاتب الكبير محمد سلماوى فى «المصرى اليوم» عدد ٢٢/٤ تكون رسالتها الخطيرة بما تحمله من معانى التآمر والتواطؤ قد وصلت كل من يهمه أمر أمن هذا البلد.
والمطلوب، ثانياً، الدعوة على الفور لمؤتمر اقتصادى يحضره الخبراء الاقتصاديون غير المُلوثين من النظام السابق وما أكثرهم، للتباحث فى كيفية عبور هذه الفترة الحرجة من تاريخ الثورة التى تواجه حرباً سرية من بعض رجال الأعمال، الذين كانوا جزءاً من النظام الفاسد السابق.. أليس هذا أولى وأهم من ذلك الحوار السياسى (الجملى) الشبيه بحوار المصاطب؟! والمطلوب، أيضاً، فى هذا الصدد جهاز مستقل يختص بالأمن الاقتصادى للدولة، ليكشف أمام الشعب من يحاول عمداً عرقلة عجلة الإنتاج والاستثمار من ذيول النظام السابق وفلوله..
يرتبط بهذا الموضوع محاولة تشويه صورة مصر الثورة، التى بدت فى أكثر صورها فجاجة فى أحداث مباراة الزمالك والفريق التونسى والتى– وياللعجب – لم تُعلن نتيجة التحقيقات فيها إلى الآن، ولم يتم حتى الإشارة إلى أسماء المتورطين فى تدبير هذه العملية العمدية القذرة، ولم نسمع حتى الآن عن التحقيق مع مدير هيئة استاد القاهرة المسؤول مسؤولية كاملة عما حدث، على الرغم من محضره الذى يؤكد إدانته، ومعلومية الجميع بمدى صلته الوثيقة بالرئيس المخلوع.
والمطلوب، ثالثاً، البحث بجدية وحِرفية ووطنية فى الأماكن التى ثارت وتثور فيها بين الفينة والفينة أحداث وقيعة بين المسلمين والمسيحيين للوصول إلى الرؤوس المُدبرة والأفواه التى تنفخ فى النار فى هذه الأماكن وانتماءاتهم.. ولا أتصور أن الوصول لمعرفة هؤلاء بالأمر الصعب إذا خلصت النوايا، وأثق ثقة كاملة بأن التعامل معهم بكل الحسم باستخدام القانون وبعيداً عمن يسمونهم دعاة ورجال دين- سيكون مبعث رضا عموم الشعب المصرى.
الرجل المحترم د. عصام شرف.. لا أتخيل أنك لا تعى تماماً كل ما قلت، ولا أتصور أنه قد جال بخاطرك يوماً أن مصر قد عقمت ولم تعد تنجب رجالا ونساءً أكفاء مخلصين ومخلصات.. ولا أعرف على وجه اليقين من هم مستشاروك، ولا من أين تأتى عليك الضغوط طمعاً فى أدبك وكرم أخلاقك.. ولكن ما أعرفه وأؤمن به أن مصلحة الوطن العليا هى فى الوصول بثورة شعبها العظيم إلى نهاية الطريق.. فإذا شعرت بأن تيار الفساد والالتفاف على الثورة أقوى منك، فإننا- لأننا نودك ونحترمك- نرجوك أن تقدم استقالتك.. ودع الأمر لجماهير الشعب.. بنى الحِمى والوطن، الذين ثاروا فى وجه الطُغاة، ونادوا بحقهم فى الحياة، وقالوا لدولة الظلم: «انمحى وبيدى».
No comments:
Post a Comment