لم يتعبنى عنوان فى حياتى كما أرهقنى البحث عن عنوان لهذا المقال.. كل من يعلم أو لا يعلم الكيفية العجيبة التى تنتقل بها الكلمات فى حالة من إعادة للخلق لا تنتهى، يعلم كذلك أن العنوان الذى اخترته فى النهاية يستدعى كذلك عنوان كتاب مريد البرغوثى البديع «رأيت رام الله»، ولكنه يستدعى كذلك مجمل خطاب الدكتور مصطفى محمود، رحمه الله وغفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه. فى حين آخر وعلى نحو عجيب قد يستدعى لنا حوارات الحكيم العظيم سواء كان هذا العظيم سقراط النبى الباحث عن الحقيقة حتى آخر رمق من كأس السم، أو «توفيق» المصرى الذى كان من المفترض أن نهنئه عندما أقلع عن محادثة حماره وراح يحاور الله فكان ما كان.
إذا استغلقت أى من هذه الإحالات على القارئ فليس ذلك سوى عيب فى الكاتبة لعدم قدرتها على فهم مصطلح «التناص» الذى يولع به المتخصصون كثيرا.. ولكنها، وحتى لا نظلم الأكاديميين، تفهم إلى حد ما أن المتلقى هو الذى يصنع ويخلّق «بتشديد اللام» المعنى فى كل مرة يقرأ فيها نصاً ما.. وهو يفعل ذلك استكمالاً للمعانى التى أعاد تخليقها الكاتب بوصفه قارئاً فى المقام الأول، فشقت طريقها من مجمل ما وصله من معان إلى حيز كتاب أو فى حالتنا هذه مقالة قصيرة لا تكتمل إلا باكتمال عدد قرائها. فالمعانى ليست أبداً «ملقاة على قارعة الطريق»، إنما هى تقبع وتنتظر فى قلوب الباحثين عن الحقيقة وهم فئة توجد فى كل شرائح بالمجتمعات وقد يقابلهم المرء على قارعة الطريق.
لا يجمع بينهم سوى صفة واحدة فقط لا غير: أنهم يستخدمون عيونهم هم لا عيون الغير، وآذانهم هم لا آذان الغير، وعقولهم هم لا عقول الغير، ولا يركنون إلى مقولات مسبقة، ويتحرون بالسؤال والبحث والتفكير كل جديد يقابلهم دون أحكام سابقة، ولا ينقلون إلا ما خبروا وحتى هذا لا ينقلونه كله إلا لو فيه خيرا للناس. فلو كانت هذه هى صفات العلماء فى المعامل والفقهاء من الصادقين غير الناقلين عن السلف دون تفكير، وبالتالى كل الأكاديميين، وكل المبدعين، فهل لنا أن نهلل لأن ذلك بالتأكيد يشير إلى أعداد هائلة من الناس؟ الحق أقول لك: لا أعلم!
ولكنى أعلم شيئاً آخر هو أن الحقيقة لا يمكن وصفها، ولا يمكن الحديث عنها، ولكنها تنبت وتكبر فى كل عقل على حدة من خلال حوار ما ولا شىء غير الحوار! وعلى الرغم من أن هذا بدهى ويبدو بسيطا فإنه عند أى محاولة تطبيق يصبح فى منتهى التعقيد ويصطدم بكم هائل من العقبات. منها الحوار المفتعل ومنها الحوار الفعال. أما الحوار المفتعل فيكون بين فريقين أو حتى اثنين أو أكثر لكل واحد منهم وجهة نظر، ولكل واحد فيهم رؤية للعالم يرى أنها وحدها تصلح لحياة أصلح وأنها وحدها قادرة على إزاحة الظلمة واستخلاص المعانى من فك العدم واللامبالاة ولملمتها من قارعة الطريق وصيانتها كما ينبغى فى القلوب، وحدها!وبالتالى: وحدهم، وحدنا، وحدى. أى أن هناك حلاً واحداً جامعاً شاملاً مانعاً «وحده» يصلح الدنيا أو «وحده» يضمن الآخرة أو «وحده» يحق له أن يسود أو يتسيد. وحتى لا يساء فهمى يتوجب علىّ القول إن هذا ينطبق على كل من يتبنى فكرة «الحل» دون إلزام الحل «بالعقد».
بمعنى أنه يستبعد أو يكفّر أو يخون «بتشديد الواو» دون حوار يسعى لانبثاق المعانى وتجديد روح الحروف، دون السعى لدفء المشاركة وبهجة وحيوية لحظات رؤية الفهم يولد، والأفق يتسع ليشمل آخرين، فإذا شملهم لا يكون ذلك إلا تحت لواء «عقد» ارتضاه هو لنفسه. وهكذا هو ما كان عليه الوضع قبل ثورة ٢٥ يناير. كل فرقة تدلى بدلوها فى البحر وكل ساع للإصلاح يشعر بالوحدة الباردة حتى بين أتباعه. كل معنى قابل لتأويل خبيث، وكل مختلف مثار للريبة، وكل جديد محل للشك. فماذا حدث؟ كيف تخلق المعنى عبر شبكات الحوار؟ كيف تبدل الشك من الآخر إلى تعاون ومشاركة؟ كيف جلس ذلك الشاب الملتزم سلفيا بجانب الفتاة السافرة؟ كيف راح ابن الإخوان المسلمين يسعف البنت المسيحية من الاختناق، فيمسك بشعرها ليزيحه عن وجهها ليتسنى له إسعافها. كيف سهر الليل ابن الطبقة الكادحة المثقف اليسارى بجانب حفيد الإقطاعى وابن الرأسمالى؟ كيف ارتضت الأخت المنتقبة أن تحضنها وتواسيها فتاة كشفت لا عن شعرها فقط ولكن عن ساعديها حتى الأكتاف؟ اجتمع هؤلاء لا ليقيموا حواراً مفتعلاً، فاجتماعهم ذاته كان تفعيلاً لحوارات سابقة.
اجتمعوا على هدف مشترك.. تناسوا الخلافات وتذكروا ما يجمع بينهم، نزعوا حجب المظاهر المضللة والتصنيفات السهلة المعوقة ونظروا فى أعين بعضهم البعض فرأوا الله! ذلك المعنى العظيم الذى نسميه «الحق»! لكن ذلك الفضل العظيم وتلك اللحظة المبهرة لم تكن لتتكشف لهم لو لم يُعملوا عقولهم ولم يتخطوا ذواتهم الضيقة ولم ينصرفوا عن النوايا البغيضة ونزعوا حُجب الظاهر وفهموا معنى جوهر الأشياء.
فكان ما كان، ثم سهروا سويا ينشدون: لا يهمنى اسمك، لا يهمنى لونك، يهمنى الإنسان ولو مالوش عنوان: يا ناس! يا ناس! هى دى الحدوتة: ما أجملها
د. سمية يحيى رمضان - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment