لعبت الحياة الثورية فى ميدان التحرير دوراً فى تغيير مفاهيم موروثة منذ العصر العبودى، منها مفهوم الرجولة، عاشت الشابات والشباب مجتمعا مصريا جديدا فى ميدان التحرير، تحت الخيام عاشوا ليل نهار تجمعهم مبادئ الثورة الواحدة، توحدهم وتذيب خلافاتهم، ونقائص التربية العبودية والثقافة الذكورية الساقطة مع الثورة، تغير أفكارهم وسلوكهم وأحلامهم، تتغلب الهوية الإنسانية على الهويات الأخرى الضيقة الموروثة بيولوجيا عبر الرحم والدم، لم يعد الرجل ذكراً يتطلع إلى أنثى،
بل أصبح إنسانا يتطلع إلى إنسانة، يتعامل معها على قدم المساواة، فى الواجبات والحقوق، هى تتقدم مثله إلى الموت لتحقيق مبادئ الثورة، وهو يكنس الخيمة ويجهز الأكل ويمرّض الجرحى، لا يخجل من القيام بأعمال كانت تسمى أنثوية، أو واجب النساء، أو واجب الفقراء من الخدم والخادمات والممرضات. استطاعت الثورة الشعبية المصرية الحقيقية أن تلغى فكرة تقسيم العمل على أساس اختلاف الجنس أو الطبقة، لم يعد رجل فى ميدان التحرير يقول لامرأة «غطى شعرك يا مرة» كما يقولها بعض الرجال للنساء غير المحجبات، لم يعد رجل يمد يده إلى جسم امرأة متحرشاً متبجحاً،
أصبح شعب ميدان التحرير شعباً راقياً حضارياً وأخلاقياً، يرتفع إلى مستوى المبادئ العليا التى ينادى بها، تمتع الجميع بالكرامة والعدالة والحرية بصرف النظر عن النوع أو الجنس أو الدين أو الطبقة أو المنصب أو المهنة أو العمر أو غيرها، فهل يتغير الرجل من إنسان إلى ذكر بعد أن يغادر ميدان التحرير؟ وهل الذكور الوحوش الذين تحرشوا بمسيرة الشابات السلمية يوم المرأة العالمى ٨ مارس الماضى كانوا من رجال ميدان التحرير أم أنهم من بلطجية النظام السابق الساقط؟ سألت بعض الشابات المشاركات فى الثورة ومسيرة ٨ مارس، قالت واحدة «شباب التحرير كانوا معانا فى المسيرة شايلين اليفط زينا، والبلطجية دخلوا الميدان وضربوهم زينا»، وقالت أخرى «كانوا أغلبهم من الرجال العاديين فى الشارع، من الجماعات السلفية ومن الثورة المضادة،
كانوا عاوزين يشوهوا الثورة ويجهضوها، أو على الأقل يخلوها ثورة رجال لا دخل للنساء فيها، واحد منهم هجم علىَّ وقال لى روحى يا مرة على بيتك لجوزك وولادك، لكن دول مش من الثورة أبدا، هذه الثورة مختلفة عن غيرها فى مصر والعالم، هذه الثورة لن تجهضها قوة، هذه الثورة غيرت التاريخ ليس فى مصر، ليس فى العالم العربى وحده، بل ألهمت شعوبا وراء المحيط، منها شعب ولاية ويسكونسن فى أمريكا، ثاروا من أجل شعارات الثورة المصرية ذاتها، العدل.. الحرية.. الكرامة، حملوا لافتات كتبوا عليها (سيروا بخطوة المصرى) نعم علينا أن نعى
وندرك كيف تتجمع القوى المضادة للثورة المصرية داخليا وخارجيا، وعلينا أن ندرك أيضا أن هذه الثورة ليست حركة أو انتفاضة تفور وتهدأ بالنظريات المزيفة عن احترام الأمن والاستقرار، بالمسكنات والوعود الخادعة المطاطة، أو بالتقسيم وإحداث الفتنة بين الشعب الواحد، إنها ثورة حقيقية تشملنا جميعا».
قالوا لى أنت تحلمين، هذه الثورة سوف تجهض، وتنتهى كما انتهت غيرها، قلت نعم أنا أحلم، وكنت أحلم منذ العاشرة من عمرى بهذه الثورة، تأخرت الثورة فى رأيى سبعين عاما، لم أحلم أبدا أننى سأعيش حتى أبلغ الثمانين من العمر، لكنى كنت أحلم دائما بالثورة، ضد كل أنواع الظلم والقهر والاستبداد، فى البيوت والمدارس ودواليب العمل وسراديب الدولة والحكومة والمعارضة، ضد التجارة والربح فى سوق السياسة والعقائد والأديان، ضد السلطة المطلقة للأب فى الأسرة والملك أو الرئيس فى الدولة، ضد مفاهيم الذكورة والأنوثة الموروثة من العبودية كنت خارج مصر يوم ٨ مارس ٢٠١١، حين رأيت فى الإنترنت صور الشابات المصريات مع زملائهن الشباب فى ميدان التحرير يحتفلون بيوم المرأة العالمى، يحمل الشباب مع الشابات لافتات تكرم شهيدات وشهداء الثورة،
تحمل شعارات الثورة منذ بدايتها العدل.. الحرية.. الكرامة، العدل للجميع نساء ورجالا، الحرية للجميع نساء ورجالا، الكرامة للجميع نساء ورجالا، تعرفت فى الصور على وجوه الكثيرين منهم، الوجوه نفسها التى رأيتها فى ميدان التحرير، طالبات وطلبة الجامعات، شباب وشابات تخرجوا واشتغلوا أو لم يحصلوا على عمل، أمهات وآباء جدد يسيرون بجوار بناتهم وأبنائهم، أم شابة تضم طفلها فوق صدرها بذراعها رافعة بذراعها الأخرى لافتة تقول: نريد قانوناً مدنياً موحداً للأحوال الشخصية، نريد دستوراً جديداً مدنياً يؤكد المساواة للجميع نساء ورجالا، مسلمين ومسيحيين وكل المصريين، يجب إلغاء السلطة الأبوية المطلقة، يجب تكريم الشهيدات والشهداء، واحترام حقوق الشعب دون تفرقة لأى سبب أو اختلاف.
ألا يحق للمرأة أن تخرج فى يوم المرأة العالمى تحمل لافتات تنادى بالعدل والحرية والكرامة؟
أليس العدل والحرية والكرامة من حق المرأة مثل الرجل؟ تجاهلت النخبة الحاكمة المسيطرة على الثقافة والإعلام هذا الحدث المؤلم، هل تصاعدت التيارات الرجعية وارتفع صوتها ضد النساء والفقراء؟
من أين تدفقت تلك الدقون السلفية واللحى الصوفية؟ إلى هذا الحد تصدق عبارة «جورج بوش وبن لادن توأم» لكن القوة الهمجية المسلحة لا تغلبها إلا القوة الثورية المنظمة المتحدة الواعية، وليس أمام شابات وشباب الثورة إلا الاتحاد، فالاتحاد قوة فى مواجهة القوى المعادية للثورة داخلياً وخارجياً، لابد من الاستمرار فى مدينة ميدان التحرير الفاضلة بالملايين، لا بد من البدء فى حملات رفع الوعى والتنظيم،
هل يصبح للشابات والشباب اتحادهم الشبابى والنسائى، وللعمال والفلاحين اتحاداتهم المستقلة عن السلطة الحاكمة، كانت هذه التنظيمات، خاصة النسائية منها، تخضع للسيدة الأولى زوجة الحاكم، وقد سقطت هذه التنظيمات مع سقوط الحكم السابق
د. نوال السعداوى - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment