أنين الماء
عندما سأله المارة الذين تحلقوا حوله فى ميدان التحرير إذا كانت الحكايات التى يرويها حقيقية أم من وحى خياله، قال لهم بثبات أربكهم: «تبقى كل الحكايات العظيمة خرافية إلى أن يؤمن بها الناس».
فى أقل من عام كان قد تحول إلى ظاهرة زلزلت البلاد وأربكت أجهزة الأمن وأعادت طقس مسامرة الأولاد من أجل أن يناموا بعد أن كاد يندثر. الناس كانوا يحتاجون إليه، ولذلك لم تأكل معهم ببصلة الحكايات التى روجتها صحف الحكومة عن كونه «إيرانيا مزقوقا على البلاد»، وقاوموها فورا بحكاية مضادة جعلته عابرا للأوطان «بيقولك إنه استغفر الله العظيم سيدنا الخضر»، وهو لم يكن سوى مدرس أول صنع منه القهر حكّاء عظيما، كل الحكاية أن ابنه الذى شاركه لحظات النجاة من كارثة غرق باقى أسرته فى سفينة الحُجّاج المتهالكة، عاد يوما من المدرسة منهاراً من العياط، وبعد أن أقنعه أن يستهدى بالله، حكى الولد ما قاله مدرسه عن هروب قاتل أمه وإخوته إلى حيث لا تطاله أيدى الحالمين بالقصاص، يومها لم يصدق الثبات الذى تملكه إزاء ما سمعه، وكيف ألفى بحول الله قوة رهيبة تملأ جوانحه، وضحكة صافية تنير وجهه، ووجد نفسه يحكى لابنه عن عدالة السماء التى لا تترك كل من ينسى أنه يفر من قضاء الله إلى قضاء الله.
«القصاص سيريحه يا بُنَىّ مما هو فيه، هو يتمنى الموت كل ليلة لكى ينهى مأساته، فادع الله مخلصاً أن يطيل فى عمر عذابه، رب العزة أملى له ليزداد إثما ويهرب إلى حيث ما ظنه النعيم المقيم، ليلة والثانية وجد نفسه يصحو من النوم على أصوات استغاثة مخيفة تنبعث فى قصره المنيف، لم يصدق أذنيه عندما وجد الاستغاثات تنبعث من كوب الماء الموضوع إلى جوار سريره، اقترب من الكوب ليتثبت من وهمه فخرقت أصوات الاستغاثة الهادرة أذنيه، رمى الكوب مرتعبا فدوّت أصوات الاستغاثة منبعثة من كل قطرة ماء تناثرت فى الغرفة، جرى إلى الحمام مسرعاً ليغسل وجهه من صدمة الكابوس، فاندلعت أصوات الاستغاثة من مياه الحنفية مرعبة مهيبة هادرة كأنها تطلب رأسه لغرق حتمى عاجل، ومن يومها يا بُنَىّ صار الماء هلاكه، أيام مرت عليه وهو غير قادر على الشرب أو الاستحمام أو الخروج من عزلته فى بلاد لا يفارقها المطر أبدا، يقولون يا ولدى إنه لكى يظل على قيد الحياة يقومون بعصب عينيه وتكميم فمه وسد أذنيه كلما أراد أن يشرب أو يتبول».
الولد نام قرير العين منشرح الصدر، وفى اليوم التالى حكى الحكاية لمدرسه وزملائه، ومعظم النار اندلع من مستصغر الشرر، وفى زمن قياسى امتلأت البلاد بحكايات ملحمية عن ضباط يصحون فى وحشة الليل على كرابيج وهمية تلسع جلودهم، وساسة يشارفون على الاختناق بروائح غاز وهمية، وقضاة أتلفت أعصابهم زفرات المسجونين ظلما، ومحافظين ينامون فى العراء خوفا من انهيار أسقف بيوتهم عليهم.
أما هو فحكايته مثل كل الحكايات عادت إليه كأنها لا تعرفه، فوجد فيها طريق السلوان، ومن يومها أخذ يطوف بها وبما شابهها على الجوامع والكنائس والمقاهى ومحطات القطارات ومواقف الأتوبيسات وكنبات الميكروباصات، وعندما هدد الحاكم وزير داخليته بالإقالة إذا لم ينه مهزلة حكايات القصّاص التى باتت تقض مضجعه، تكفلت وشاية حقيرة بالقبض عليه فى مدرج درجة ثالثة وهو يحكى للناس بين الشوطين قصة النمرود الذى قتلته هاموشة تسربت من أذنه إلى داخل دماغه فأخذ يأمر حاشيته بضربه حتى مات.
اليوم، كل ما بقى من ذكراه ذلك التسجيل اليتيم الذى يتناقله الناس على أجهزة المحمول، والذى التقطه له شخص ما من العاملين فى أجهزة الأمن قبل لحظات من اقتياده إلى مكان ومصير غير معلومين، ضحكته كانت صافية كأنه عريس غارق فى الهناء، ووجهه كان يشع نوراً أو لعلها كانت إضاءة الجهة الأمنية التى كان محتجزا بها، وصوته كان هادراً لدرجة جعلت كل من سمعه يتخيل أنه يكلمه هو دون غيره، كل الذين سمعوه لم يكونوا بحاجة لإعادة الفرجة عليه لكى يحفظوا ما قاله، ألسنتهم مازالت تلهج بكلماته كأنها قيلت للتو «لن تتحقق العدالة فى هذه البلاد، لذلك احلموا بها وهى تحل على الجلادين والقتلة والفاسدين، ثم ارووا أحلامكم لأبنائكم كل ليلة، لعلها عندما يكبرون تنتقل بشكل خرافى من عالم النوم إلى عالم اليقظة».
(عندما نشرت هذه القصة فى هذه الصحيفة فى فبراير 2009 لم يكن لدى الرئيس المخلوع مبارك وقت للقراءة، واليوم وقد أصبح لديه الكثير من الوقت أُعيد نشرها وأهديها إليه بمناسبة أنه أدرك أخيرا أن ربنا كبير، وأهديها إلى كل من يتعاطفون مع الجلادين وينسون الضحايا لعلهم يدركون قبل فوات الأوان أن ربنا كبير).
بلال فضل - مصراوى
No comments:
Post a Comment