تناولنا فى المقالين السابقين تحت هذا العنوان، كيف نشأت فكرة العقد الاجتماعى ومضمونها الأساسى، وكيف أنها لا تعدو أن تكون تعبيرًا سياسيًا عن المقصود بالدستور الذى ينظم سلطات الدولة وعلاقاتها ببعضها وعلاقاتها بالمواطنين.
ويبقى فى هذا المقال الثالث أن نتحدث عن علاقة سلطات الدولة الثلاث ببعضها وعلاقتها بالمواطنين، وذلك طبعًا فى إطار المفهوم الديمقراطى للدولة المدنية.
أما علاقات سلطات الدولة ببعضها فيحكمها ويحدد علاقتها ما إذا كنا فى نظام رئاسى، أم فى نظام برلمانى، أم فى نظام وسط بين النظامين السابقين.
فى النظام الرئاسى يوجد فصل بين سلطات الدولة الثلاث مع رقابة كل سلطة للسلطتين الأخريين، وهو ما يسمى فى النظام الأمريكى - المثال الأوضح للنظام الرئاسى - cheqne and balance.
وفى النظام البرلمانى فإن البرلمان هو صاحب اليد الطولى والسلطة التنفيذية تستمد وجودها من ثقته وتخضع لرقابته السياسية والمالية، وتبقى السلطة القضائية فى النظامين تتمتع بالقدر من الاستقلال الذى يمكنها من تحقيق سيادة القانون وحكمه.
وكما قدمنا فى المقال السابق، فإن تداول السلطة وحرية تكوين الأحزاب هما ضمانان أساسيان من ضمانات الديمقراطية.
والمهم فى هذا المقال أن نتحدث عن مضمون العقد الاجتماعى الجديد من حيث علاقة سلطات الدولة بالموطنين.
الدولة الديمقراطية المدنية تقوم على أن السيادة للشعب وأنه يمارس هذه السيادة وفقًا لما يحدده الدستور.
ولكن الأصل العام هو أن كل السلطات تستمد من الإرادة الشعبية، بحيث إن أى خروج على هذه القاعدة الأساسية يعتبر خروجًا على العقد الاجتماعى المتفق عليه، ومن ثم يعتبر خروجًا على المبادئ الدستورية الأساسية، وهذا هو الذى دعانا إلى أن نقول إن بعض ما ورد فى التعديلات الدستورية التى أدخلت على دستور ١٩٧١ عامى ٢٠٠٥ و٢٠٠٧ يعد من قبيل الخطيئة الدستورية لخروجها ومخالفتها المبادئ الدستورية العامة وللعقد الاجتماعى.
وكان العقد الاجتماعى فى القرن التاسع عشر، وحتى ما بعد الحرب العالمية الأولى، يتحدث عن صورة الدولة الحارسة، الدولة التى تقتصر مهمتها على الحفاظ على الأمن الخارجى والأمن الداخلى ويدخل فى ذلك فض المنازعات بين الناس.
كانت مهمة الدولة الحارسة تقتصر على ذلك، وكانت علاقة المواطنين بها محدودة، أما الدولة الحديثة فقد توسعت سلطاتها، ولكن تبقى هذه السلطات فى النظام الديمقراطى رغم اتساعها مقيدة بسيادة القانون.
هى أولاً دولة لكل المواطنين.. وكل المواطنين فيها يتمتعون بحقوق متساوية مهما اختلفت أديانهم أو تباينت أعراقهم أو معتقداتهم، كل الحقوق لكل الناس ما داموا فى مراكز قانونية واحدة. والعقد الاجتماعى الجديد لا يكتفى بالدولة الحارسة.. الدولة الحارسة ضرورة ولكنها ليست كافية.
إن مفهوم الأمن أو الأمان اتسع الآن اتساعًا شديدًا.. أصبح هناك الأمن الاقتصادى، والأمن الاجتماعى، والأمن الثقافى، وهناك أيضًا كرامة الإنسان، وهكذا دخلنا فيما يقال له دولة الرفاه أو الدولة العادلة.
والأمن الاقتصادى يتمثل فى ضرورة أن توفر الدولة لكل المواطنين حدودًا معقولة من الدخول تتناسب بطبيعة الحال وفقًا لمساهمتهم فى الإنتاج القومى.
كذلك فإن الأمن الاقتصادى والأمن الاجتماعى يتضمنان عددًا من الخدمات الأساسية توفرها الدولة الحديثة وتكون موسومة بالتقصير إن هى لم توفرها.
والرعاية الصحية فى مقدمة هذه الخدمات، والرعاية الصحية ليست كلمة عامة، إنما هى تتمثل فى وحدات صحية فاعلة ومستشفيات مركزية مجهزة بالآلات وبالقوى البشرية، وتأمين صحى شامل لا يترك مواطنًا - خاصة غير القادرين - نهبًا للعوز والمرض.
ورعاية الطفولة من ناحية والشيخوخة من ناحية أخرى تدخلان فى مفهوم الأمن الاقتصادى والأمن الاجتماعى، وعدم تفاوت الدخول تفاوتًا واسعًا فى منظمات العمل الواحدة، وإن كان التفاوت حسب طبيعة العمل والمساهمة فى الإنتاج أمرًا حتميًا، ولكن الأمر غير المرغوب فى دول العدالة أن تتفاوت الدخول بين حدها الأدنى وحدها الأعلى تفاوتًا مستفزًا، كما هو حادث فى بلادنا الآن، وتدخل حماية البيئة الآن فى مفهوم الأمن الاجتماعى.
كذلك فإن «الأمن الثقافى» يعتبر ضمن اهتمامات الدولة الحديثة.. وأهم دعائم الأمن الثقافى هى التعليم والبحث العلمى، التعليم الذى يساهم فى تكوين العقل المبدع الناقد، وليس العقل الذى قصاراه تحصيل وحفظ بعض مواد المعرفة، ثم إفراغها فى كراسة الامتحان، وينتهى الأمر عند ذلك الحد.
أما البحث العلمى وهو الهدف الأساسى للتعليم العالى - أو هكذا يجب أن يكون - فإنه هو وسيلة الشعوب للحاق بعلوم العصر ومعارفه، وأيضًا وسيلة الشعوب للمساهمة فى التطوير العلمى والحضارى. إن قوة الدولة الآن لا تقاس بقوتها العسكرية، وإنما يقال هناك دول عالمة ودول متخلفة، هناك دول تستوعب علوم العصر وتضيف إليها بإنتاج المعرفة، وهناك دول تتلقى دون أن تساهم، والفارق بعيد بين الدولتين، وأظن أن الكل يجمع على أن الأمن الثقافى فى بلادنا مختل، ذلك أن التعليم فى كل مستوياته لا يحقق الحد الأدنى من إنتاج العقل المبدع الناقد المبتكر، ولا يحقق البحث العلمى الذى يجعلنا نسهم فى معارف العصر.
ويتسع المفهوم الثقافى لما هو أبعد من ذلك.. فالمكتبات العامة ودور الكتب والوثائق والإذاعة المسموعة والتليفزيون وما تقدمه كلها من حصيلة ثقافية تدخل فى نطاق مفهوم الأمن الثقافى، وإذا كان التعليم والبحث العلمى عندنا فى أزمة حقيقية، فإن الجانب الآخر من المفهوم الثقافى حقق قدرًا لا بأس به.
والعقد الاجتماعى الجديد يتضمن كيف تكفل كرامة الإنسان فى كل علاقاته وهو فى السجن أو المعتقل أو حتى الاحتجاز العارض، إن إهانة الإنسان هى جريمة بشعة لا يغفرها العقد الاجتماعى الجديد.
ويدخل فى هذا الباب أيضًا العدالة وعدم التمييز، وإن كان هذان الأمران يتعلقان بمبدأ المساواة أكثر من تعلقهما بأى جانب آخر، المهم أن العقد الاجتماعى الجديد يقوم على مجموعة من المبادئ الأساسية فى مقدمتها:
- دولة القانون والمؤسسات.
- الشعب هو مصدر كل السلطات.
- استقلال القضاء وسيادة القانون.
- تداول السلطة وحرية تكوين الأحزاب.
- دولة الرفاه والكرامة الإنسانية.
- التعليم الذى ينجب العقل الناقد.
- البحث العلمى الذى يجعلنا نعيش عالمنا ونتأثر به ونؤثر فيه.
نعم نحن بحاجة إلى عقد اجتماعى جديد.
وسنصنعه بإذن الله
د. يحيى الجمل - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment