في الحلقة التي استضاف فيها يسري فودة وزميلته ريم ماجد علي قناة "أون تي في" السادة حمدي قنديل وعلاء الأسواني ورئيس الوزراء السابق أحمد شفيق، في حضور صاحب القناة نجيب ساويرس أيقنت أن فجراً جديداً قد أشرق علي مصر.
كان البرنامج الذي سبقه قد استضاف شفيق في مواجهة كمال أبو المجد و عمرو حمزاوي و معهما أيضاً نجيب ساويرس!.
و ربما فتح هذا البرنامج شهية شفيق علي الاستمرار و عدم مغادرة الاستوديو لمقارعة الضيفين التاليين بنفس الكيفية التي قارع بها أبو المجد و حمزاوي!.
لا أنكر أن الدكتور أبو المجد كان رصيناً هادئاً وسطياً كعادته، و أن عمرو حمزاوي كان منطقياً عقلانياً كما عهدناه، و أما ساويرس فحاول القيام بدور توفيقي يرضي جميع الأطراف.
لكن في هذه الحلقة التي سبقت حلقة قنديل والأسواني نجح أحمد شفيق في التهام ضيوفه و مصمصة عظامهم دون الاستعانة بأي سلاطات أو مخللات مستفيداً من عدة مزايا توفرت له..أولاً: منصب رئيس الوزراء الذي يكفل لشاغله حصانة و مهابة في الدول المتوحشة التي لا تعرف المساواة و لا تحترم القانون.
ثانياً: ثقة بالنفس تعود إلي كرسي الحكم و إلي تاريخ طويل لم يسمع فيه الرجل من يعارضه و إنما استمع دائماً من حوارييه إلي آهات الدهشة و الإعجاب بالعبقرية و النبوغ!.
ثالثاً: لسان طلق و قدرة علي المراوغة بصرف النظر عن المنطق تنفع كثيراً في الحديث إلي المرؤوسين و قد تحد من اندفاع غير المرؤوسين.
رابعاً: الأدب الجم للضيوف الذين جلسوا في مواجهته، و صبرهم علي مقاطعته الدائمة لهم، و احتمالهم تفرعه إلي أمور لا علاقة لها بموضوع الحلقة، بالإضافة إلي عدم رغبتهم في حصاره أو إحراجه، و ذلك من باب إعطائه الفرصة كاملة و تشجيعه علي إظهار الجانب الحسن لديه.
وربما أن هذا ما شجع الدكتور شفيق علي الاستمرار في الحلقة التالية لتسديد مزيد من اللكمات و حصد المزيد من النقاط المجانية!.
كانت مشكلة شفيق أنه للمرة الأولي في حياته يواجه و يجلس مع مثقفين حقيقيين من النوع الذي لا يمكن أن ينبهر بكلماته الإنجليزية التي يرددها بدون سبب و التي يكثر منها علي طريقة من عملوا زمان بالأورنس الإنجليزي!.
ووضح منذ البداية أن علاء الأسواني و هو يحمل هماً كبيراً يتمثل في دماء الشهداء، لم يكن لديه استعداد للاستماع إلي حواديت خارج الموضوع، و لا كان يطيق أن يتم العبث بالقضايا الأساسية التي ثار الناس من أجلها. لهذا فقد شعرالناس أنه يتحدث بلسانهم و هو يصر منذ البداية علي إعادة الدكتور شفيق إلي الموضوع و عدم السماح له باستعراض سيرته الذاتية المهنية كمسوغ لأن نجعله فوق المسائلة و الحساب.
لكن أحمد شفيق ظل مركزاً علي تاريخه في القوات الجوية و بلغ به الأمر أن بدا علي استعداد للتضحية بأستاذه و معلمه حسني مبارك عندما أنكر أي أفضال للرجل عليه، بل و قال إن مبارك هو الذي استفاد من جهده هو و زملائه..و أتصور أن شفيق كان محقاً تماماً في هذه النقطة، و لو أنها كانت تكون ملائمة أكثر في ندوة تتحدث عن أداء الطيران في حرب أكتوبر!.
بعد ذلك لجأ شفيق إلي تكتيك رأيناه منه كثيراً يتمثل في ادعاء البساطة و مخاطبة الناس بأسمائهم مجردة ثم تسديد اللكمات بينما هو مرتدياً البلوفر!...لجأ الرجل إلي طريقة :" اسمح لي انت مش فاهم و محتاج إني أفهمك"..هذه الطريقة نجحت مع آخرين فأنصتوا باهتمام للرجل الصادق البسيط الذي لا يبغي سوي أن يُفهّمهم و يأخذ بأيديهم إلي الحقيقة!. لكن مع علاء الأسواني كان هذا مستحيلاً..لماذا؟. لأن علاء الأسواني بدا في الحلقة مذاكراً أحمد شفيق مذاكرة تامة، و قد رأيناه و هو يعيد علي مسامع شفيق أقواله لمحطات العربية و بي بي سي و الحرة و سي إن إن غيرها..و لعل علاء الأسواني كان متمثلاً المؤتمر الصحفي الذي عقده الرجل صبيحة توليه رئاسة الوزراء عندما أعلن في البداية استعداده للإجابة علي كل الأسئلة دون تحفظات، و عندما وجهت له راندا أبو العزم مذيعة "العربية" سؤالاً حقيقياً في الصميم فإنه أعرض عنها و رفض الإجابة في كبر واضح.
لهذا ما إن سمع علاء الأسواني جملة "اسمح لي انت مش فاهم و محتاج إني أفهمك" و التي يبدو أنه كان ينتظرها، حتي عاجل الرجل بمنتهي الأدب و القوة قائلاً: حضرتك اللي مش فاهم و أنا اللي محتاج أفهمك.
لم يكن علاء الأسواني لديه استعداد لإضاعة الوقت في كلام ساكت أشرف منه الصمت، لذلك فقد أتت أسئلته مركزة عما ينوي رئيس الوزراء أن يفعله مع جهاز أمن الدولة، ذلك الجهاز الإرهابي الذي روع مصر لصالح أمن مبارك و عائلته. و علي قدر ما كان الأسواني منحازاً لأنّات المصريين و عذاباتهم كان شفيق منحازاً للجهاز القمعي و مصراً علي أن أمن الدولة موجود في كل البلاد و لسنا بدعة في ذلك!.. فلما حاول علاء أن يوضح له أن أجهزة الأمن في الخارج لا تعذب الناس و لا تنتهك أعراضهم لم يقدم شفيق أي وعود بمحاسبة المجرمين في هذا الجهاز، لكن تجلي أنه يمثل حائط صد لهؤلاء الذين ثبت فيما بعد أنهم كانوا فعلا يحتمون به و وزير داخليته عندما قاموا بإحراق كل شيء في اللحظة التالية لرحيل شفيق!.
لقد أبكي علاء الأسواني ملايين الناس في البيوت و هو يسأل شفيق عما يمكن أن يقوله لأمهات الشهداء الذين قتلتهم رصاصات الشرطة و ما الذي يؤخره في القبض علي المجرمين و تقديمهم للعدالة. و ربما رأي البعض أن علاء الأسواني كان عنيفاً في مواجهته لأحمد شفيق، و لكن الرد علي هذا أن النائحة الثكلي ليست كالنائحة المستأجرة..لقد تحدث الروائي الكبير سائلاً رئيس الوزراء عما إذا كان قد شاهد مدرعة الشرطة و هي تنطلق بأقصي سرعة تدهس المصريين..كان الأسواني يمتليء بالغضب لأجل الذين قدموا أرواحهم فداء لمصر و أمامه رجل يجلس منجعصاً علي كرسيه فارداً قدميه للأمام و كأنه يعتلي شيزلونج علي حمام السباحة..رجل كان مسؤولاً عن أمن مصر يوم موقعة الجمل و الجحش..رجل يستطيع بإشارة من إصبعه أن يقبض علي القتلة و يقدمهم للعدالة... و لا يفعل.
كان بإمكان أحمد شفيق أن يسطر لنفسه تاريخاً مجيداً في تلك الليلة..كان بين يديه أن يصنع من نفسه بطلاً لهذه الأمة التي تحتضن من يتبني آلامها بصرف النظر عن أي اعتبارات أخري. لقد رفع شعب مصر سعد زغلول إلي أعلي عليين و هو الذي كان معروفاً في السابق كرجل سكير مقامر..غفروا له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر و تذكروا فقط شجاعته و و وطنيته و حمله لمطالب المصريين.
كان بإمكان شفيق أن يقول أنه سيعلن غداً أسماء القتلة و سيقدم القائمة بنفسه للنائب العام، و كان بإمكانه أن يعلن أن جهاز أمن الدولة هو جهاز إرهابي ثم يتعهد بأن يضع حداً لإجرام هذا الجهاز. لكن للأسف لم يفعل شفيق هذا و إنما فعل شيئاً آخر لم يدهش أحداً... لقد ثار في وجه علاء الأسواني و اتهمه بأنه يرتدي ثوب الوطنية و صرخ بأنه أكثر وطنية منه و بأنه فعل كذا و كذا و كذا.
عرف الناس في تلك الليلة أن لا أمل لهم في وجود شفيق علي رأس الوزارة و أدركوا أن مباحث أمن الدولة أعز عنده من دماء الشهداء.
إن الأديب الكبير علاء الأسواني الذي حقق نجاحه الأدبي بعيداً عن المنظومة القذرة لم يكتف بالتعاطف مع أمهات و آباء الشهداء، لكنه في تلك الليلة سجّل اسمه في قائمة الضحايا و عجن نفسه بأشلاء الشهداء و مزج لحمه بلحمهم المهروس و دمه بدمائهم الطاهرة التي سالت علي الأسفلت.
تحية من القلب لعلاء الأسواني الشهم الكريم،البسيط القوي.. نبت أرض مصر الطيبة.
أسامة غريب - الشروق
No comments:
Post a Comment