تتميز الثورات الشعبية فى التاريخ بالنقاء الأخلاقى والتمسك بالمبادئ الإنسانية الرفيعة، الكرامة، الحرية، العدالة، الصدق، ألم تكن هذه المبادئ هى الشعارات التى رفعتها الثورة المصرية ٢٥ يناير ٢٠١١؟
تنفجر الثورات الشعبية ضد فساد الحكومات وكذب السلطات المطلقة بجميع أشكالها، فالسلطة المطلقة لا تقوم ولا تستمر فى الدولة والعائلة إلا على الاستبداد والخديعة والتحكم فى ملايين البشر بالقوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية والدينية، أصبحت الصحافة والإعلام المرئى والمسموع من أهم الاسلحة لإجهاض الثورات فى العصر الحديث وما بعد الحديث،
يقوم الإعلام الحكومى الدولى والعربى والمصرى بحماية الحكومات الفاسدة، تتعاون القوى الدولية الاستعمارية مع الحكومات المحلية التابعة لها فى التربص بأى انتفاضة شعبية لتحويلها عن أهدافها الثورية العميقة من أجل التغيير الجذرى الشامل لتصبح حركة إصلاحية سطحية، تقوم بعمليات شكلية تجميلية للنظام السابق الفاسد دون اقتلاع لأسس الفساد ذاته.
يكفى أن نتابع ما ينشر اليوم فى الصحف الحكومية المصرية (ما يسمونها الصحف القومية الكبرى) لنكتشف كيف تسعى فلول النظام السابق الساقط بقوة الثورة المصرية إلى إجهاض أهداف الثورة تحت اسم الثورة العظيمة ذاتها، نقرأ فى الصفحة الأولى مانشيتا كبيرا يؤكد ضرورة محاكمة الرئيس السابق وتجميد أرصدته وأسرته وأعوانه فى البنوك وإعادتها للشعب المصرى، ثم نقلب الصفحة لنقرأ مانشيتا عريضا يناقض المانشيت السابق،
يؤكد أن رجل مبارك العظيم يلقى خطابا فى ميدان مصطفى محمود، نرى صور بعض الموظفين حاملين لافتات تأييد لمبارك بطل النصر، وترشيح ساعده الأيمن فى الانتخابات المقبلة، وفى صفحة أخرى نرى وزير الدفاع الأمريكى روبرت جيتس فى زيارته للقاهرة مع المجلس العسكرى الأعلى ورئيسه المشير، ثم نقرأ مقالا لرئيس التحرير الذى كان أحد أبواق مبارك وأحد فلاسفة الفساد وتبريره، يكتب مقالا ضخما لا نفهم منه شيئا، يدعى الأستاذية وإعطاء دروس للشباب، يمدح ثورتهم العظيمة بنبرة خطابية إنشائية تفتقد الصدق، ثم يقول: هل الثورة تعنى الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار وإيقاف عجلة الإنتاج وقتل السياحة؟ ثم يشكك الشباب فى ثورتهم ويقول، من السهل أن يحشد الشباب مظاهرات مليونية،
لكن من الصعب عليهم أن يقوموا بعمل إيجابى يساعد الوطن على الخروج من الأزمة الراهنة، كان منذ لحظات يقول عنها الثورة العظيمة، تحولت بسرعة فى نظره إلى الأزمة الراهنة، يعلن عن خوفه من غياب الأمن، مع أن غياب الأمن لم يحدث من الشباب الثائر بل من بوليس النظام السابق، يحذر من الفتنة الطائفية وحرق الكنائس، يعرف أن الشباب الثائر لم يحرق كنيسة واحدة ولم يتحرش بفتاة واحدة، تم حرق الكنائس والتحرش بالنساء بواسطة بوليس النظام السابق وأعوانهم فى أمريكا واسرائيل، يحذر من تدهور الوضع الاقتصادى،
يطلب من الشباب العودة إلى بيوتهم، ينصحهم بالعمل على زيادة الإنتاج، تنشيط السياحة بدلا من تنظيم مظاهرات مليونية، تناسى أو نسى الكاتب الكبير أنه لولا هذه المظاهرات المليونية ما سقط رأس النظام وما استمع أحد لمطالب الشباب، وما تم خلع عدد من وزراء النظام والكشف عن سرقاتهم البلونية، ويمضى السيد رئيس التحرير فى مقاله الكبير يضرب الثورة بكلمات مراوغة معسولة، يدس السم فى العسل، يقلده فى ذلك جميع رجال ونساء الصحافة والإعلام السائد.
كنا نتوقع سقوط رؤوس الصحافة والإعلام الذين ساندوا الفساد وبرروه، أو على الأقل تستروا عليه ولم يكشفوه، لكنهم لا يزالون جميعا فى مواقعهم يخدمون النظام السابق، يعملون معه فى الخفاء والعلن على حد سواء، أصواتهم عالية مسموعة كما كانوا، أرباحهم مستمرة كما كانت، أصبحوا يلقنون الشباب (الذى صنع الثورة العظيمة) الدروس والنصائح، لا يخجلون، لا يتذكرون أنهم عجزوا عن الثورة بل خانوها، مع ذلك يتشدقون بالوطنية والثورية أكثر من الشباب الثائر، من يحميهم؟
من يبقيهم فى مناصبهم، أهو المجلس العسكرى الأعلى؟
أم الحكومة الجديدة الظاهرة أم الحكومة الخفية الكامنة فى الظل؟
عرفنا من التاريخ أن كل ثورة لها أعداء، يتربصون بها لإجهاضها، لاستعادة ما فقدوه أو ما يمكن أن يفقدوه لو نجحت الثورة وحققت كل أهدافها ومنها عزلهم عن مواقعهم، لهذا يمارسون نفاقهم الذى أصبح بحكم العادة جزءا من شخصيتهم، وطريقهم الأمثل للتربح من كل من يملك السلطة، لكنى أثق فى قدرة الشباب والشابات الذين صنعوا الثورة وأسقطوا رأس النظام أن يسقطوا جسده وأذرعته وأصابعه وأذياله، لن تقف فى وجه الثورة أى قوة داخلية أو خارجية، وإن حشدت أمريكا وإسرئيل جيوشها، وإن جاء وزير الحربية الأمريكى روبرت جيتس إلى ميدان التحرير، وإن خطط لضرب الثورة من تحت الحزام، وإن تم حرق كنيسة فى مصر لإحداث فتنة بين المسلمين والأقباط، الذين اتحدوا وتآخوا فى ظل الثورة، وإن تم إرسال بالطائرة رجل دين مدرب على فلسفة الاستعمار «فرق تسد»، جاء بالطائرة فجأة بعد نجاح الثورة يخطب فى الملايين، ما هى القوى الخارجية التى أرسلته؟
جاء ليتسلق الثورة، يحاول قيادتها دون أن أن يكون له أى دور فيها، يحاول إجهاضها لتكون دينية رغم أنها سياسية اقتصادية اجتماعية ترفع شعارات العدالة والحرية والكرامة وتغيير الدستور، ليكون مدنياً خالياً من البنود الدينية والأبوية التى تفرق بين المسلمين والأقباط وبين الرجال والنساء.
سألنى صحفى أمريكى: هل يمكن للإخوان المسلمين أن يجهضوا الثورة ويحولوها إلى ثورة دينية، كما حدث فى إيران بعد ثورة ٧٩؟ قلت لن تتحول الثورة المصرية إلى ثورة دينية، لأن الشباب والشابات الذين صنعوا الثورة المصرية على وعى كامل بضرورة أن تصبح مصر دولة مدنية، تفصل بين الدين والدولة، أن يتساوى فيها الجميع أمام الدستور والقانون، حتى الأجيال الجديدة من الإخوان المسلمين يؤمنون بالدولة المدنية وليس الدينية، تعلم الشباب المصرى من تجربة إيران وكيف أجهضت ثورتها السياسية الاقتصادية الاجتماعية الثقافية لتصبح ثورة دينية دموية مدمرة لإيران،
أدركوا كيف تعاون الاستعمار الفرنسى مع الأمريكى والبريطانى لإرسال الخمينى بالطائرة إلى طهران لإجهاض الثورة، هذه القوى الاستعمارية تدرك خطورة الثورة المدنية الساعية للقضاء على النظام الطبقى الأبوى، وعلى الاستعمار الخارجى وأعوانه فى الداخل، يفضل الاستعمار الثورة الدينية عن الثورة المدنية الاشتراكية، بل تخدم الثورات الدينية المصالح الطبقية الأبوية فى الداخل والخارج، يستخدم الاستعمار الخارجى والداخلى الأديان لتبرير الظلم والقهر تحت اسم الله، يخدع الملايين ويتاجر بالله فى حلبة السياسة والنهب والقتل، تلعب الدول الدينية (على رأسها الدولة اليهودية فى إسرائيل) دوراً فى استخدام النصوص فى كتب الله لاحتلال البلاد ونهبها وإبادة أهلها، لهذا تصبح الثورات الدينية أقل خطراً على الاستعمار (والحكومات المحلية التابعة له) من الثورات المدنية السياسية والاقتصادية،
لكن الثورة المصرية لن تنخدع ولن تتحول إلى ثورة إسلامية، كما تخطط لها القوى المعادية لها فى الخارج والداخل، كما أن الثورة المصرية لن تستسلم للحكم العسكرى من خلال المجلس الأعلى للجيش، الذى يتولى السلطة مؤقتا فى مصر، ولن تستطيع أمريكا أو إسرائيل أو أى قوة استعمارية خارجية أن تجهض الثورة المصرية لصالحها، لقد أعادت الثورة توحيد الشعب المصرى وأذابت فى ميدان التحرير كل الخلافات الدينية والسياسية والجنسية والطبقية الأبوية، لهذا لن تجهض الثورة وسوف تستمر وتحقق كل أهدافها للتغيير الجذرى وليس الشكلى فقط، المعركة مستمرة والثورة مستمرة، وسوف ينتصر النقاء الثورى على خدع المتآمرين داخليا وخارجيا
د. نوال السعداوى - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment