Wednesday, March 16, 2011

غرف مغلقة ومعقمة


أشفق على شبان خرجوا من غرف مغلقة إلى ميادين وشوارع. خرجوا مزودين بخيال واسع وأفكار غزيرة ليكتشفوا أن الميادين أوسع من خيالهم والأشباح فيها والوحوش أكبر من أفكارهم. اعتصموا وهتفوا وتظاهروا وخطبوا واستمعوا وانضربوا وبدلوا الميادين من حال إلى حال.

تغيرت الميادين ولكن تغيروا هم أيضا. ولا غرابة فالتغيير كان الشعار والهدف وكان أيضا النشيد والحلم. كانت هناك أيضا فى الميادين أو على مقربة منها قوى التغيير رابضة بوفرة تعمل ليل نهار لتغير الميدان والإنسان. كانت هناك كاميرات الفضائيات والهواتف النقالة. وكانت هناك قوى ضد التغيير كالجمال والحمير وأمن الدولة.

مرت أيام بقى بعدها فى الميدان من بقى وعاد إلى البيوت من عاد. عاد البعض من الميدان إلى بيته ليكتشف أنه يفكر بطريقة مختلفة ويمارس سلوكيات مختلفة ويسأل أسئلة مختلفة. وقف أمام مرآته ليرى نفسه بعد يوم أو أيام قضاها فى الميدان وليرى كيف بدا أمام الآخرين فى الميدان وعلى شاشات القنوات الفضائية وأمام عناصر الشر التى حاولت اجتياح الميدان. لم تتعرف عليه المرآة أو لعله لم يتعرف على نفسه. تغيرت المرآة. هذه مرآة أخرى غير تلك التى أنس إليها وتعود عليها قبل نزوله إلى الميدان. عرف منذ الصغر واطمأن إلى أن مرآته كانت دائما وفية وصادقة. ما بالها اليوم تعكس صورا أخرى؟. ماذا فعل الميدان به؟. وربما فى الوقت نفسه كان الميدان يسأل السؤال نفسه وما فعله الشباب به. تغير الحجر كما تغير البشر.

كان تاريخا مشهودا يوم خرج الشبان إلى الميادين. أكثرهم عاش قبل هذا اليوم داخل غرف مغلقة كان الظن أنه لا يرى من كوتها إلا بصيصا ولا يعرف عن خارجها إلا النزر اليسير. الغرف مغلقة وأيضا معقمة ومزودة بمضادات للتلوث.

لا يدخلها صخب الميادين ولا تتسرب إليها جراثيم تحملها وتنشرها الملايين. يأتيه خبر الفساد فيتخيله فى حجم هائل كحجم غرفته المغلقة والمعقمة. يأتيه خبر الكذب فيتخيله من نوع المبالغة فى الشرح والوصف. يأتيه خبر التعذيب فيتخيله كألم الصداع زائلا لا محالة بقرص بانادول.

أكثر وقته قبل الرحلة التى قادته ومئات الألوف من أقرانه إلى الميادين كان يقضيه مع الكمبيوتر، الجليس المفضل والرفيق الأمين. جليس لا يكذب ولا ينافق ولا يسعى لجاه أو منصب، ورفيق لا ينتهز ولا يتسلق ولا يدوس على غيره. من هذه العلاقة التى قامت داخل غرفة مغلقة أو مقهى للإنترنت تطورت صورة عن سلوكيات لم تعرف الانتهازية والنفاق، وعادات لم تعرف القذارة أو الفوضى. ومن هناك، من شاشة كومبيوتر فى غرفة مغلقة ومعقمة أو فى مقهى للإنترنت خرجت رسالة فى ذلك اليوم إلى الميادين يحملها شبان يدعون للتغيير وبعضهم غير محصن ضد فيروسات الواقع الرهيب وغير مؤهل لمقاومة شباك الخيوط العنكبوتية التى أمسكت بخناق المجتمع وجمدت حاضر المواطن فى بوتقة تعاسة لا يستطيع التفلت منها إلى لحظة تفاؤل أو سعادة. كان لا بد أن تأتى الصدمة الأولى لمجتمع كليل ومتداع وفاسد من شباب بهذه الصفات حتى يعترف القاصى والدانى بأن الثورة المصرية فريدة فى نوعها.

هناك فى الميدان وتحت المطر زالت عن وجوه عديدة مساحيق كانت تخفى نوايا تضمر الشر للثورة أو أطماعا شخصية لركوبها. هناك عرفت فتاة الثورة وفتاها أن الوطن سيبقى دائما محتاجا لنقاء الشاب الخارج لتوه من غرفة مغلقة ومعقمة. هناك بدأ الفرز.

بقلم:جميل مطر - الشروق

No comments: