فى الميدان الأكبر بالعاصمة المصرية، هتف الآلاف من الشباب المصرى «الشعب يريد إسقاط النظام»، هتافاً واحداً، منغماً، باللغة العربية الفصحى، أسقط عدداً من الأساطير التى طالما ظلت على الحياة السياسية المصرية، وعبّروا به - كـ«شباب الفيسبوك» كما يحلو للبعض أن يصفهم - عن أنفسهم، كجيل رفض الاستسلام لأساطير «سلبية المصريين» و«قوة النظام» و«طائفية المجتمع» و«انهيار الطبقة الوسطى» و«عدم وطنية الشباب».
فى البداية «الشعب»، ففى ميدان التحرير، تواجد الشعب، «شعب يريد» أول كلمتين فى الهتاف كسر بهما شباب مصر الأسطورة الأولى التى كتب عنها علماء الاجتماع والسياسة، «شعب يريد» ويتحرك ويتظاهر، ولسان حاله يقول «لست سلبياً»، وأمام ثورة وحماس الشباب، «بدت» (الكردونات) الأمنية هشة، ضعيفة، لا يوازيها فى هشاشتها سوى ردود فعل قيادات الحزب الوطنى، ورموز النظام -حسب عمار على حسن، أستاذ علم الاجتماع السياسى- التى بدأت تظهر عبر وسائل الإعلام، ولخصها بيان الحزب الوطنى الرسمى الذى قال «نتفهم مطالب المصريين» يوم ٢٥ يناير.. بذرة ثورة تشكلت أطلقها شباب انتمى إلى الطبقة الوسطى، محطما ثالث الأساطير الخاصة بانهيار الطبقة الوسطى، وتمر الأيام ليقدم الشباب أكثر من ٣٠٠ شهيد فى سبيل وطن، طالما اتهموا بأنهم غير منتمين إليه، لتقام الصلوات وتدق أجراس الكنائس، ويصلى المسلمون صلاة الغائب، ويرددون «آمين» وراء أحد القساوسة الذى اعتلى خشبة أحد مسارح الميدان، ليدعو للشهداء، فى مشهد كسر خامس الأساطير «طائفية المجتمع».
قوة النظام.. الإعلام التقليدى والذراع الأمنية فى مواجهة الإعلام الافتراضى
يوم ٢٦ يناير، وبعد يوم واحد من انطلاق الثورة المصرية، راهنت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية على «قوة نظام مبارك» وكتبت فى افتتاحيتها «نظام مبارك القوى غير قابل للسقوط على غرار ما حدث مؤخراً من سقوط نظام حكم الرئيس زين العابدين بن على فى تونس، بسبب قوة سيطرته على مجريات الأمور وتغلغله فى المجتمع»، لكن أمام ثورة وحماس شباب، «بدت (الكردونات) الأمنية هشة، ضعيفة، لا يوازيها فى هشاشتها سوى، ردود فعل قيادات الحزب الوطنى، ورموز النظام»، -حسب عمار على حسن-الذى قال إن النظام القوى المعروف فى الثمانينيات والتسعينيات، والذى يملك ذراعين إعلامية وأمنية قويتين، لم يتغير بتغير الأوضاع، والأسوأ أنه لم يستطع رصد هذا التغيير، فالنظام الذى اعتمد على الإعلام التقليدى، لم يستطع مجاراة الإعلام الشعبى غير التقليدى، الذى بدأ يكتسب مصداقيته بتوثيق كل ما يجرى بالصوت والصورة، ومنحنى التغيير بدأ مع الحملة على التعذيب فى الأقسام التى بدأها مدونون، واستطاعت أن تهزم الإعلام التقليدى الحكومى، وعلى جانب آخر،
وعندما كانت الذراع الأمنية للحكومة ممثلة فى جهاز مباحث أمن الدولة، مهتمة بالكيانات السياسية الطبيعية، سواء الرسمية أو غير الرسمية مثل الإخوان المسلمين، كان الشباب المصرى يتكتل فى كيانات موازية افتراضية على الشبكة العنكوبتية، مثل «جروب خالد سعيد»، أو «جروب دعم البرادعى رئيساً للجمهورية»، وبذلك استطاع الشباب هزيمة الدولة القوية، التى لم تفلح حتى بطرقها القديمة فى التأثير عليهم بعد انطلاق الثورة، بالدعاية المضادة التى استخدمت أسلوباً قديماً، مثل اتهامات العمالة ووجبات «كنتاكى»، حيث كان ميدان التحرير عبر الإعلام الشعبى، موجوداً داخل كل منزل به جهاز كمبيوتر ووصلة إنترنت، بفضل مقاطع الفيديو التى رفعها شباب الميدان.
غياب الانتماء.. شباب الجيل الجديد يعودون «للجد تانى»
فى مواجهة اتهامات متواصلة بعدم الانتماء، وغياب الوطنية، قدم شباب مصر، صك براءة من اتهام ظالم فى الميدان، فهناك وقف ملايين الشباب يردون على اتهامات مثل الـ«لامبالاة» و«السطحية» و«عدم الاكتراث»، التى وقد دشنتها عدد من الدراسات، منها دراسة الباحثة الدكتورة عبير فريد، الأستاذة فى جامعة عين شمس، والتى أعلنت أن الوازع الدينى والانتماء لدى الشباب مزيف، وأن «الوعى للوطن مفقود»، وأن «غياب الانتماء مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفقر والبطالة».
وبينما كانت الاتهامات تتزايد جاءت الثورة على أيدى الشباب لتهدم وهم «غياب الانتماء» كما كتب سليمان عبدالمنعم فى مقال نشر فى «المصرى اليوم» يقول: «كان القلق قد استبد بنا ونحن نردد أن شبابنا غارق فى اللامبالاة والسطحية وعدم الاكتراث، كان الألم يعتصرنا ونحن نتوهم أن العولمة قد استلبت شبابنا من وطنهم فإذا بهؤلاء يفاجئوننا وهم يوظفون بشكل مدهش أدوات العولمة وتقنياتها الحديثة فى تبنى قضايا وطنهم على موقعى «فيس بوك» و«تويتر»، لم يعد شبابنا هم أبناء العولمة الغامضة الماكرة بل بقوا أبناء الوطن، وفوق ذلك أظهروا روحاً إنسانية دفعت العالم كله إلى احترامهم والإعجاب بهم، وبفضلهم عشنا اللحظة التى يقول فيها رئيس أمريكى إن شباب مصر قد ألهمنا، من حقنا اليوم أن نفرح بعودة الوعى لشبابنا، وأن نغنى وراء أحمد فؤاد نجم «يا عم حمزة.. رجعوا التلامذة.. للجد تانى».
طائفية المصريين ..فزاعة استخدمها النظام تطبيقا لمبدأ «فرق تسد»
قبل الثورة كتب الدكتور عمرو الشوبكى، الخبير فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، مقارنة بين الأوضاع فى مصر وتونس يقول: «من احتجوا فى المدن التونسية لا يركبون وسائل مواصلات مثل التى يركبها المواطن المصرى، ولا يقدم لهم طعاماً وشراباً مثل الذى يقدم لكثير منا، ولا يعيشون فى أحياء لا علاقة لها بالسكن الآدمى، ولا عرفوا لوثة دينية غيبت العقل، وأخرى كروية قضت على ما تبقى منه مثلما جرى فى المحروسة، ومع ذلك خرج الناس فى احتجاجات واسعة ضد الغلاء وسوء الأحوال المعيشية (ولو النسبى) والبطالة».
استخدم الشوبكى مصطلح «لوثة دينية» قبل الثورة بحوالى ٢٠ يوما، وقتها كانت «فزاعة» المجتمع الطائفى حسب الكاتب الصحفى صلاح عيسى، تسيطر على الحياة الاجتماعية فى مصر، لأن قبل الثورة بأيام قليلة وقع حادث كنيسة «القديسين» فى الإسكندرية، وهو ما جعل البعض يتخوف من مستقبل مظلم للبلاد، لكن عيسى يرى أن الحادث كان نقطة تحول بقوله: «ماحدث فى المجتمع فى الأيام التالية للانفجار، من تلاحم إنسانى رفيع بين المسلمين والمسيحيين كان بداية لما رأيناه فى أيام الثورة».
فى الثورة، وأمام رصاصات الأمن المركزى، وقف المسلمون والمسيحيون سوياً، وبعد صدامات الأيام الأولى، ظلوا واقفين، يتلون صلواتهم كل على حدة، وأحيانا سويا كما حدث فى «أحد الشهداء» الذى شهد فيه ميدان التحرير قداساً مسيحياً شارك فيه آلاف المسلمين الذين وقفوا سوياً يرددون الدعوات وراء أحد القساوسة لكل الشهداء، وهو المشهد الذى وصفه الشاعر فاروق جويدة بقوله: «وقتها تأكدت الدنيا كلها أنه لا يوجد فى مصر شىء اسمه الفتنة الطائفية.
سلبية المصريين.. «فيس بوك» و«تويتر» والمدونات حوّلت المواطن من خانة المتلقى إلى المرسل
فى كتابه «شخصية مصر» يقول المفكر الراحل جمال حمدان: «سلبية المواطن الفرد إزاء الحكم جعلت الحكومة هى كل شىء فى مصر، والمواطن نفسه لا شىء، فكانت مصر دائما هى حاكمها، وهذا أس وأصل الطغيان الفرعونى والاستبداد الشرقى المزمن حتى اليوم أكثر مما هو نتيجة له، فهو بفرط الاعتدال مواطن سلس ذلول، بل رعية ومطية لينة، لا يحسن إلا الرضوخ للحكم والحاكم، ولا يجيد سوى نفاق السلطة والعبودية للقوة، وما أسهل حينئذ أن يتحول من مواطن ذلول إلى عبد ذليل».
ويقول الكاتب الصحفى، صلاح عيسى، إن استخلاص «سلبية المصريين» لم يكن صحيحا ١٠٠%، وأن المواطن المصرى لم يكن دائماً سلبياً، ويضيف: فى تقديرى هذا يرتبط بما يسمى «الاستبداد النهرى الشرقى» الذى ترتبط فيه السلطة التنفيذية بالقوة والتسلط، حيث يحتاج إليها المجتمع بشكل دائم، وهو ما أدى فى تقديرى إلى أن يتحول المواطن إلى مواطن مسكون بـ«رغبة الاستقرار»، وصبور وصبره قد يطول، وعندما يثور بأخذ شكل من أشكال الحدة، حيث إن غضبه شبيه بغضب الجمل، لكنه ليس سلبياً.
ويرى الدكتور طلال فيصل، الطبيب النفسى، أن جزءاً من إيجابية المواطن بدأت بتحرر الإعلام، وظهور الـ «نيوميديا»، مثل موقعى «فيس بوك» و«تويتر»، والمدونات، والتى جعلت شخصية المستخدم تتحول إلى فاعل بدلا من مستقبل، وبدأ الشباب فى الكتابة بدلا من قراءة المقالات، وبدأوا فى عزف الموسيقى بدلا من الاستماع فقط، وتسجيل الأفلام بالهواتف المحمولة.
انهيار الطبقة الوسطى.. أشعلوا شرارة الثورة وقالوا «نحن هنا»
فى الأيام الأولى كانوا هناك، أشعلوا شرارة الثورة ونزلوا بالملايين، ليهدموا وهم «انهيار الطبقة الوسطى» ويعيدوا إلى أساتذة علم الاجتماع السياسى نظرياتهم، ويطالبوهم بإعادة صياغتها، أو تصحيحها، كما يطالب الباحث معتز عبدالفتاح الذى يرى أن الحديث «الأسف» عن تآكل الطبقة الوسطى وانهيارها، يدل على وجود «خطأ يصل إلى حد الخلل فى المرجعيات الفكرية لهذه الكتابات».
الطبقة الوسطى التى أطلقت شرارة التغيير فى ميدان التحرير، -حسب عبدالفتاح- هى النقيض التاريخى للطبقة الوسطى التى تنهار فى مصر حسب الكتابات القديمة
أحمد رجب
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment