أفضل ما فى «ثورة النور»، التى اندلعت فى ٢٥ يناير الماضى، أنها أعادت لمصر والمصريين الشعور بالعزة والأمل، وأسوأ ما فيها أنها عرضتهم لشىء من الفوضى، وبعض الانقسام.
يسطر ملايين المتظاهرين من أبناء مصر الشرفاء سطوراً من النور ويفتحون أبواب الأمانى على مدى أسبوعين متواصلين، ويقدمون شهداء قرابين للحرية، ويشقون طريقاً نحو المستقبل، بكفاح سلمى نبيل بالحناجر والأيدى والصدور العارية، ويضربون أروع الأمثلة على قدرة هذا الشعب على الاستجابة للتحديات، والبقاء قائداً ومُعلماً ومُلهماً، لكن قطاعاً فى الرأى العام المصرى بدأ يتخذ مواقف سلبية إزاءهم.
ترى «ثورة النور»، التى تسعى إلى التبلور والاكتمال الآن، أن مصر شهدت فى هذا العهد، الذى يتعرض للإطاحة، فترة من أسوأ الفترات التى مرت بتاريخها، وأن اليقين تزعزع فى الشخصية المصرية ذاتها، وفقد كثيرون الثقة فى قدرتها على استعادة وعيها الجمعى، والانتفاض ضد الخوف والفساد والتراجع والظلم وانهيار العدالة وتطويع القانون.
تعرف «ثورة النور» أن النظام الذى يتعرض للإطاحة الآن، جرّف الحياة السياسية فى هذا البلد، واستخدم آليات للفرز العكسى، لانتخاب أسوأ العناصر وأكثرها جهلاً وفساداً، لتصعيدها وتسييدها، وأنه سعى بدأب لاستبعاد أصحاب الكفاءة والمهارة والفكر الثاقب، والذين يدركون معانى الوطنية والكرامة والشرف، وأنه شوه سمعة رجال، ولطخ تاريخ رجال، ليُفقد الناس الثقة فى أى بديل، ويسلمهم - مضطرين - إلى قبول الوضع الذى اختاره لهم.
تتذكر «ثورة النور»، كيف أذل النظام، الذى يواجه الغضب العارم راهنا، قطاعات واسعة بين المصريين، وكيف قمع وظلم وقهر وعذَب وقتل كثيرين منهم، وأنه ترك بينهم ميراثاً من الخوف والرغبة فى اتقاء غضبه، إيثاراً للسلامة.
فرّغ النظام، الذى يترنح حالياً، الحياة المصرية من معنى الضمان الاجتماعى، وأسلم ربع المواطنين إلى الفقر والعوز الصريح، وأبقى نحو نصفهم على حافة الحاجة، مضطرين إلى مهادنة الأوضاع ومسايرة الظروف لقضاء حوائجهم وسد مطالبهم المتصاعدة، فى ظل غلاء مطرد وغير مبرر للأسعار.
تقدر «ثورة النور» شعور المصريين المفرط بالوطنية، وحساسيتهم التاريخية ضد أى تدخل أجنبى فى شؤونهم، وقبولهم أسوأ الأوضاع، ودفعهم أفدح الأثمان، للحفاظ على استقلالية بلادهم، وصون قرارهم الوطنى، مهما كانت التحديات التى تواجههم والمظالم التى تستهدفهم.
ترصد «ثورة النور» مخاوف المصريين جميعاً من هيمنة تيارات مغرضة على هبتها النبيلة، ومن نجاح هؤلاء الذين يخلطون الدين بالسياسة، ويحتكرون الإيمان، ويتلاعبون بالعواطف الدينية الصافية للشعب المصرى، فى تحقيق مصالحهم الانتهازية فى القفز على السلطة على حساب انتفاضة الثائرين الأنقياء.
تحسب «ثورة النور» التكاليف الاقتصادية والاستثمارية الناجمة عن هبتها الحتمية، وتقدر حجم الخسائر والتداعيات، وتضع فى الاعتبار مخاوف مصريين كثيرين من تفاقم تلك الخسائر، وانعكاساتها على المقدرات الاقتصادية للبلاد.
تعرف «ثورة النور» أن أكبر انحياز ثقافى مصرى على مر التاريخ هو الانحياز إلى «بقاء الأوضاع على ما هى عليه»، وأن تراث الشعب المصرى ومخزونه الحضارى ينزع نحو الاستقرار، وينبذ الفوضى، ويقدر الالتزام والضبط الاجتماعى، ويهاب التغيير، ويرتاب بالقادم، ويتعلق بمقولة محورية خطيرة يرددها صغار وكبار، فقراء وأغنياء، حكام ومحكومون؛ مفادها أن «اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفوش».
تدرك «ثورة النور» أن النظام الذى اكتشف «فجأة» أن عدداً كبيراً من قادته يجب أن يحالوا إلى المحاكمة بتهم تتعلق بالفساد، يستند إلى قاعدة واسعة من الفاسدين واللصوص والمنتفعين والوسطاء والخدم المستفيدين من فتات الهدر وعمولات الصفقات الحرام، وأن هؤلاء لا يدافعون عن مبارك بقدر ما يدافعون عن أنفسهم، وأن إصرارهم على حماية مبارك ليس سوى الخيار الأوحد لهم، والذى يقيهم المحاسبة والسؤال، ويجنبهم دفع أثمان جرائمهم الفادحة.تسمع «ثورة النور» صوت الأمهات الملهوفات على أبنائهن فى التظاهرات أو «اللجان الشعبية» أو الشارع المضطرب، وتقدر رغبة الكهول والشيوخ فى ضمان «خروج مشرف ولائق» لرجل «خدم البلاد على مدى ستة عقود وساهم باقتدار فى تحقيق أعز انتصاراتها»، وتحترم آراء مفكرين وسياسيين ومثقفين رأوا «أن التغيير المتدرج المرحلى الذى يضمن تحسناً واستقراراً أفضل من الانقلاب الجذرى الذى قد يجلب الفوضى».
ولذلك، فإن «ثورة النور» تطور ذراعاً سياسية منتخبة فى الميدان، وتبدأ فى التفاوض من أجل تحقيق كافة مطالبها الوطنية النبيلة المشروعة، وتُبقى سلاحها الماضى الرادع عزيز الأثر، والمتمثل فى الخروج المليونى السلمى إلى الشوارع، جاهزاً للاستخدام، فى حال تم الانقضاض عليها، أو الالتفاف على مطالبها المشروعة.
«ثورة النور».. ذلك اسمها، لذا، فهى لن تأخذنا أبداً إلى الظلام
ياسر عبدالعزيز - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment