نار الثورة تطهر الشرطة من خطاياها
قهر المواطن وغياب الحكمة فى التعامل معه، وتجاهل طموحات الشباب، وسلوك الإهانة والاحتجاز دون وجه حق بالإضافة إلى فقدان شعور المواطن بأنه آمن على حياته وممتلكاته، كانت هى الاستراتيجية الفعلية التى تطبقها أجهزة الشرطة، بالإضافة إلى تفشى الرشوة والمحسوبية وسلبيات أخرى، أوجدت حالة من «التار البايت» بين هذا الجهاز الحيوى والمواطن المصرى قبل الثورة.
وبعد انتصار إرادة الشعب وتخلصه من كل مخاوفه بدأت الصورة تتغير إلى الأفضل، أعادت «الداخلية» شعار «الشرطة فى خدمة الشعب» ووضعت استراتيجية جديدة ترتكز على المصالحة مع النفس والوطن، بدأت بإعادة ترتيب الصفوف من الداخل وتغيير فلسفة التعامل مع المواطن وامتداداً إلى خطة فى نهايتها تغيير زى رجل الشرطة.. ماذا حدث قبل وبعد؟.. الإجابة فى التفاصيل القادمة.
«كل الدراسات ووجهات نظر أصحاب الخبرة الأمنية كانت تؤكد أن جهاز الشرطة حتماً سينهار، إلا العاملين فى هذا الجهاز أنفسهم، ومواطن سكنه خوف ورعب سنوات قهر طويلة» بهذه العبارات بدأ أحد خبراء الأمن تفسيره لما سبق الثورة وأضاف أن الفساد تغلغل فى جسم هذه المنظومة وامتد إلى كل شىء فيها حتى صارت محاولات الإصلاح أشبه بـ«الشىء الغريب»، ودلل على ذلك بما كان يحدث فى داخل مؤسسة الشرطة نفسها حيث انتشرت «الشللية» وقلة من أصحاب الحظوة تحصل على كل شىء، وآخرون محرومون من كل شىء، ظهرت مواقع وإدارات بعينها، أطلقوا عليها «الخليج» لما يدره العمل فيها من مكاسب مادية وسلطوية وبقية الجهات بعيدة عن الحوافز والبدلات، فلم يجد العاملون فيها سوى المواطن يحصلون منه- قهراً- على ما يعوضهم عن بعض الفوارق ويفرغون فى التعامل معه ما يلاقونه من كبت واستهتار وتجاهل.
يوضح خبير أمنى التفاصيل فيما كان يحدث من رأس النظام نفسه الذى كان متمثلاً فى الوزير السابق حبيب العادلى وقيادات الوزارة، وقال إن هناك جهات أشبه بالدجاجة التى تبيض ذهباً كل يوم وتدر دخلاً لا يوجه إلى التطوير والبناء أو حتى يتم تقسيمه بصورة عادلة، واستأثرت به مجموعة من المنتفعين فمثلاً- والكلام للخبير الأمنى- شركات «الفتح والمستقبل» و«اللوحات المعدنية» التى تعمل الأولى والثانية فى مجال المقاولات وتنتج الثالثة اللوحات المعدنية للسيارات ومصنع الجلود كان دخلها يقسم يومياً على قيادات الوزارة، الأمر الذى كان يرفع دخل البعض إلى ما يزيد على خمسة ملايين جنيه كل شهر، واستطاعوا أن يكونوا ثروات وصلت إلى مجزر آلى فى ٦ أكتوبر و٣ قصور فى الشيخ زايد ومثلها فى العين السخنة.
وفى شؤون الأفراد يحدث ما هو أقرب إلى الخيال فهناك من يحصل على ٣٠ يوماً فى اليوم الواحد من عائد لجان التعيين والطبى والترقية وغيرها، وما يقرب من نصف مليون جنيه تدخل هذه الإدارة يومياً ما يرفع دخل القيادات الكبرى إلى مبالغ تتراوح بين ٢٥٠ و٣٠٠ ألف جنيه فيما يحصل- مثلاً- رائد على ٤٦ ألف جنيه وأفراد وموظفون على مبالغ تترواح بين ٢٠ و٥٠ ألفا، واستمارات الصرف تتم بصورة شبه يومية ويتم إعدامها فى الحال، وتتميز جهات بعينها فى رواتبها وساعات الخدمة مثل شرطة الكهرباء والضرائب والأموال العامة والتموين والإسكان والاتصالات والنقل والمواصلات ناهيك عن العمل فى جهاز أمن الدولة، وتتولى إدارة الشؤون المالية سداد حسابات كبار قيادات الشرطة فى الفنادق والمناسبات وغيرها.
فى المقابل يحصل الضابط برتبة عقيد فى الجهات الأخرى كالأمن العام مثلاً على راتب لا يتخطى ٢٥٠٠ جنيه شهرياً وأمين الشرطة «ممتاز» ٦٩٠ جنيهاً والملازم أول ١٢٠٠ جنيه شهرياً، هذه الحالة أوجدت حالة من عدم الرضا والشعور بالدونية، ويأتى بعد ذلك عدد ساعات العمل، التى تتواصل بالأيام دون أن يحصل رجل الشرطة فى إدارة ما على راحة، ما يؤدى إلى خلل بسبب ساعات التشغيل ويدفع إلى التعذيب واستخدام أساليب العنف والتلفيق والإكراه على الاعتراف.
وقال اللواء محمود بركات أحد القيادات السابقة بجهاز الأمن العام إن إرباك رجل الشرطة بالعديد من المهام فى وقت واحد مثل الخدمات والتشريفات يفقده جزءاً كبيراً من مجهوده فى تحقيق الأمن للمواطن- الذى هو رسالته الأساسية- مما أعطى فرصة أكبر لانتشار الجريمة الجنائية وأفرغ الشرطة من مهمتها، أضف إلى ذلك حشد جميع القوات فى التصدى لأشكال الاحتجاج على النظام والسياسات الفاسدة، وأصبحت التوجيهات بقمع هذه الاحتجاجات بأى صورة تحدث كل يوم اتساعاً جديداً فى الشرخ بين المواطن والشرطة، حتى صار الأمر عداء و«تار بايت».
وقال اللواء بركات إن هناك محاولات- وصفها بالقليلة- لمد جسور الثقة المفقودة مع المواطن، كلها ذهبت أدراج الرياح بسبب السياسات السابقة، التى أصبح فيها ضرب المواطن شيئاً عادياً ما دفع مدير أمن الدقهلية إلى التنبيه على الضباط بضرورة النزول إلى المواطن وعدم التعالى عليه.
واعتبر المواطنان أحمد محمد السوهاجى ومحمد عبدالحميد أن الالتحاق بكلية الشرطة أصبح حكراً لأصحاب النفوذ أو القادرين على الدفع فقط، أما أبناء عامة الشعب فهم محرومون من الالتحاق بهذا الجهاز.
وتحدى عبدالحميد أن يكشف المسؤولون فى وزارة الداخلية عن أشخاص التحقوا بكلية الشرطة دون أن يكونوا من أبناء أصحاب السلطة أو المال- مثلها كأى جهاز مهم- لا يناله إلا من يملك أن يدفع المهر، سواء كان ذلك بالحسب أو المال.
أما الذهاب إلى قسم الشرطة حتى لو كان لاستخراج بطاقة رقم قومى فكان شيئاً مخيفاً محفوفاً بالمخاطر، وصار المواطن يرتعد إذا شاهد رجل الشرطة، فما بالك إذا تعرض لأى نوع من أنواع الاشتباه.. ضرب وتعذيب وممارسة ضغوط تصل إلى بهدلة الزوجات والشقيقات والأمهات، وليس أدل على ذلك من قضية مذبحة بنى مزار التى لا نعلم من ارتكبها حتى الآن، وما تعرض له الشاب الذى تم الزج به ليصبح كبش فداء، وشاءت عدالة السماء أن تظهر براءته لكن هناك كثيرين دفعوا ثمن جرائم لا علاقة لهم بها.
يقول مساعد الشرطة السابق حسن على أحمد أن أسلوب الإعاشة والتدريب فى معسكرات- بعيد تماماً عن الآدمية، لا يمكن أبداً أن يتخرج فيها من يحمل رسالة تأمين الوطن أما ما يحدث فى أكمنة المرور وما يتم من تغيير للقوانين فهو نوع من الجباية وإهانة المواطن، كيف تطلب من قائد مركبة أن يلتزم بقوانين تمت صياغتها فى المكاتب المكيفة، فى طرق غير صالحة وزحام مركبات لا مثيل له فى كل دول العالم، أضف إلى ذلك غياب الثقافة الأمنية والأخلاقية عند السواد الأعظم من الأفراد- الذين هم عصب الحياة الأمنية- كيف ألقى بهذا الشخص إلى الشارع والقهر والمهانة تحيط به من كل الجهات؟ بالتأكيد سوف يفرغ كل ذلك فى ضحيته من المواطنين سواء كان ذلك فى خدمة مرورية أو جمع تحريات أو حتى فى تأمين منشأة مهمة.
وقالت والدة الشهيد أحمد العربى إن رجال الشرطة يتصرفون مع البشر على أنهم كلاب ضالة، أطلقوا الرصاص الحى على شباب مصر، وبينهم ابنها لأنهم خرجوا يدافعون عن مستقبلهم وشبابهم الذى تتم سرقته أمام أعينهم «هؤلاء الشهداء قتلوا الخوف من رجل الشرطة- الذى هرب- فى أول مواجهة حقيقية»، وقالت إنها لن تسكت هى وأبناؤها عن ظلم بعد اليوم، سوف تصرخ وتقاوم وتقدم الشكاوى إذا تكرر ما كان يحدث، لن تسكت على مرشد يستغل علاقته بضابط ويفرض سطوته أو يبيع المخدرات محتمياً بمن يعمل معه.
وعن لحظة الانهيار واختفاء الشرطة يوم «جمعة الغضب» يقول أحد شهود العيان من كبار الضباط الذين كانوا فى غرفة القيادة إن اجتماعاً ضم عدداً قليلاً من قيادات الأمن فى الليلة التى سبقت صباح الجمعة وبدأ كل ضابط كبير يعرض تقريره وقام ممثل أمن الدولة فقال «انتوا خايفين من إيه؟ دول شوية عيال بنجرى وراهم بقالنا كذا يوم.. دول شوية فراخ تقولوا لهم هش يهشوا على طول.. تشجعوا وشجعوا ضباطكم وبكره آخر النهار كل حاجة هتخلص ويروحوا بيوتهم تانى» ولم يستطع أحد الرد عليه وتم إنهاء التلقين والتحدث فى خطة الصد والمواجهة فقط «لم يخطر ببال واحد منهم أن يضع ولو لمجرد الصدفة خطة للانسحاب وجاءت جمعة الغضب بعد أيام من المطاردات والمواجهات وقتلت جموع الشباب- الأعزل- وحش الخوف فى صدورهم، فلم ترهبه طلقات الغاز ولا هراوات الجنود ولا أشد من ذلك، واجهوا الموت بصدورهم واندفعوا بكل قوتهم وحدث هرج كبير، اختفت بعده الشرطة.
قيادة أمنية هرولت على أقدامها واحتمت فى وزارة الداخلية وظلت تصرخ طالبة للنجدة بينما لم يجد آخر سوى سيارة فى الشارع رقد تحتها واحتمى غيره فى عدد من الضباط الصغار الذين تحملوا عنه غضبة الثوار حتى أوصلوه إلى مكتبه، وجاءت صرخات الضباط من كل مكان وحدث الإختفاء بعد حرق أقسام الشرطة.
ثم حدثت الهجمة على السجون. شاهد العيان رفض أن تكون هناك تعليمات أو خطة لإثارة الفزع، لكنه أكد أن كل شخص شغلته حياته وكيف ينجو بها من الموت، ودلل على ذلك بسلوك أحد قيادات أمن القاهرة الذى أمر بإظلام مبنى المديرية وبذل كل جهد لإنقاذه من التخريب وظل كذلك حتى وصلت قوات الجيش وبقى فى مكتبه أياماً طويلة.
وماذا بعد «الخراب»؟ هذا السؤال يحاول اللواء محمود وجدى وزير الداخلية وقيادات الوزارة الإجابة عنه عمليا حيث أصدر الوزير قراراً بإعادة شعار «الشرطة فى خدمة الشعب» ثم راح يتنقل بين قطاعات الوزارة وإداراتها، يلتقى قوات الأمن المركزى ويرسم استراتيجية إعادة البناء من الداخل بتعديل الرواتب ومراجعة أسلوب التدريب والإعاشة وإعادة التأهيل والتدريب، بالإضافة إلى إصلاح السجون والإفراج عن معتقلى الثورة والرأى والنشاط السياسى وتطبيق الإفراج الشرطى، ورسم صورة أفضل للمستقبل، ووضع خطة من أجل تغيير زى الشرطة وإعادة هيكلة دور جهاز أمن الدولة والتوجيه إلى وقف طرق الجباية فى تحصيل مخالفات المرور وتفعيل دور غرف العمليات ولم يغب عن الوزير الحالة النفسية السيئة التى أصبح عليها رجل الشرطة فلم يتردد فى بث الروح فيهم وتذكيرهم بأهمية الدور الذى يؤدونه ورسالتهم السامية فى إطار صحيح.
وأجرى أكثر من حركة تنقلات وإنهاء خدمة شملت عدداً من قيادات الوزارة بالإضافة إلى التشديد على ضرورة إجراء تحقيقات إدارية مع من ارتكبوا جرماً فى حق الثورة وشبابها، عقب انتهاء تحقيقات النيابة العامة معهم. ولم ينس وجدى، الالتقاء بالغاضبين من أبناء الجهاز، سواء كانوا من الأفراد أو صغار الضباط، وأصدر قرارات بتحسين رواتبهم ويجرى الآن التقريب بين رواتب الإدارات المختلفة.
عمر حسانين - المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment