Wednesday, January 19, 2011

كـلهم (زيـن العابدين).. فمن هـو التالى؟

خلال شهر واحد، قيض للمواطن العربى أن يشهد ــ من موقع المتفرج ــ حدثين تاريخيين سيقدر لهما أن يبدلا فى الخريطة السياسية لعالم مترامى الأطراف ولا قلب له، كما فى صورة القيادات الأبدية للنظام العربى الذى يسجنه فى قوقعة الاستبداد والتخلف والغربة عن العصر.

ففى السودان.. وبعد مسلسل من الحروب الأهلية التى تبدت عرقية فى بعض جوانبها، ودينية فى جوانب أخرى، اضطر النظام الديكتاتورى إلى التسليم بانفصال جنوب السودان عن شماله لتصير الدولة دولتين تحت الرعاية الأمريكية ــ الإسرائيلية المباشرة.

أما فى تونس.. فقد تفجر غضب الأهالى المقموعين منذ دهور، والذين لم يعرفوا فى تاريخهم الحديث وعلى امتداد أربع وخمسين سنة من الاستقلال إلا رئيسين للدولة: أحدهما ظل على كرسيه حتى أصابه الخرف فتولت زوجته وعائلتها الوصاية على السلطة ومقدرات البلاد، أما الثانى فقد أزاح «سيده» وولى نعمته الحبيب بورقيبة الذى أتى به حارسا واغتصب الرئاسة وثروات البلاد، وأيضا بالاشتراك مع زوجته وعائلتها التى باتت الآن من أعضاء نادى الأغنياء فى الدنيا، بينما شباب بلادها من الخريجين يحرقون أنفسهم فى الشارع (حتى لا ننسى محمد بوعزيزى) لأنهم لا يملكون ما يقيم الأود من دون إهدار الكرامة.

وإذا كانت الحروب الداخلية والمنازعات السياسية فى السودان قد جعلته على الدوام حاضرا فى نشرات الأخبار عبر مؤتمرات المصالحة المتعددة، تارة داخل الشمال، وطورا مع الشرق، وغالبا مع الجنوب، وأحيانا مع غربه، ثم مع المحكمة الجنائية الدولية التى أنشئت لتطويع نظام، بحيث يسلم بانفصال الجنوب والعودة إلى بيت الطاعة الأمريكية تائبا ومستغفرا، فإن تونس الخضراء ظلت بعيدة عن اهتمام العالم، يضرب بها المثال لاستقرارها الذى تبين أنه يقارب الغيبوبة والاغتراب عن الحياة فى القرن الواحد والعشرين.

أما فى الدول الأخرى التى تهتز المقاعد تحت حكامها من أهل النظام العربى بفعل الغضب الشعبى الذى يستولده الفقر وحجز الحريات والتحكم بالمؤسسات ذات الغلالة الديمقراطية، فيتم تزوير الانتخابات جهارا نهارا، وتقمع الأحزاب ذات الشعبية وتمنع من تأكيد حضورها «السلمى» عبر إثارة النعرات الطائفية، حتى لو شكّل ذلك تهديدا لسلامة الوطن ووحدة أهله عبر تقسمهم حسب أديانهم أو طوائفهم، بما يعيدهم إلى حظيرة النظام خوفا من الحرب الأهلية.

أما فى مثل هذه الدول المحكومة بالقمع والرئاسات الوراثية، فإن انتفاضة تونس التى أطاحت بديكتاتورها زين العابدين بن على، قد فاقمت مخاوف أهل النظام العربى، وهى ستدفعهم ــ على الأرجح ــ إلى تشديد قبضتهم ريثما تمر العاصفة؛ فيباشرون سلسلة من التراجعات التى يفترضون أنها قد تنقذهم من الطوفان.

ولعلهم يستفيدون من تجربة بن على فلا يتعجلون الاستسلام، بل يأخذون بتوسيع الهامش أمام المعترضين، وقد يلجأون إلى بعض الرشاوى الاقتصادية التى من شأنها أن تخفف الضيق، كما فعل النظام الجزائرى لامتصاص النقمة الشعبية التى فجرها الغباء المطلق: أكثر من مائة وأربعين مليار دولار (من المال العام) وملايين العاطلين عن العمل يستندون إلى الحيطان فى الشوارع.

من المؤكد أن الحدث التونسى الخطير قد هز العديد من «العروش» فى الدنيا العربية، ملكية وجمهورية على وجه الخصوص. ذلك أن زين العابدين بن على كان فى بعض وجوهه «مسخا» عن أولئك الأباطرة الذين يتحكمون فى مصائر شعوب ذات تراث نضالى لا يقل عن تراث التونسيين، وذات تراث فكرى وثقافى مميز طالما أعطاها مكانة عالية ليس فى الوطن العربى فحسب وإنما فى العالم أجمع.


إنه الديكتاتور، الحاكم الفرد، الذى لا يثق إلا بأهل بيته فى الداخل والبيت الأبيض فى واشنطن مرورا بالإليزيه فى باريس فى الخارج. ولعله بحكم تجربته الشخصية لم يكن يثق بالجيش بل يفضل عليه الأمن، ومن الأمن المخابرات التى ينحدر منها والتى هيأت له الفرصة ليكون حارس النظام ثم مولاه بعد خلع من جاء به وائتمنه على حياته.

إن العديد من أهل النظام العربى كانوا يعتبرون زين العابدين بن على نموذجا ناجحا، حتى وهو يقفل بلاده على أهلها، ويمتنع عن المشاركة فى مؤتمراتهم وقممها إلا نادرا. بل إنه قد «طرد» قمة عربية من تونس لأن بعض مدبريها قد خالفوا تعليماته!

ولعل بعض أهل النظام العربى كانوا يحسدون «بن على» على «رعيته» الصابرة، الطيعة، التى خرجت من الشارع منذ أمد بعيد ولم تعد إليه إلا قبل شهر تقريبا. وفى تظاهرات تبدت فى أول الأمر أقرب إلى نداءات الاستعطاف منها إلى المجاهرة بالثورة لإسقاط النظام.

ربما لهذا لم يظهر أهل النظام العربى، القلق على «الزين» فى تونس، ولاهم قدروا ـ بالطبع ـ أن هذه الغضبة الشعبية ستتعاظم وتتمدد فى مختلف أرجاء تلك الدولة الجميلة والفقيرة، حتى إذا ما ووجهت بالقمع اتسع نظامها منتقلة من «الدواخل» إلى العاصمة مطورة شعاراتها من الحيز الاقتصادى ( الجوع، الغلاء، نقص فرص العلم) إلى الحيز السياسى بمواجهة القمع البوليسى والاعتقالات بل ورصاص الشرطة برفع شعار إسقاط النظام.

وهكذا، فإن هذه الغضبة الشعبية العارمة قد سخرت من التنازلات التى باشر بإعلانها الديكتاتور، وحولت «وعده» بألا يجدد لنفسه بعد انتهاء ولايته ( أى بعد إنهاء ربع قرن فى سدة الرئاسة) إلى نكتة، وكذلك فعلت بتعهداته بإطلاق الحريات العامة وإلغاء الأحكام العرفية والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة، وغير ذلك من الحقوق المشروعة للشعب والتى لو أنها توفرت أساسا لما تعاظمت ثورته حتى إجبار الطاغية على الهرب، متلفعا بعتمة الليل، متصلا بعواصم كثيرة كى تقبله لاجئا، حتى ارتضت السعودية أن تستضيفه إلى جانب العديد من الأباطرة المخلوعين فى بيت الصمت.

ومن حق أهل النظام العربى أن يخافوا، بعد اطمئنان طال أمده إلى خضوع شعوبهم ليأسها من التغيير. خصوصا أن أجهزة الأمن فى مختلف دول الرأس الواحد قد تم تدريبها جيدا على أيدى المخابرات المركزية الأمريكية الحريصة كل الحرص على «الاستقرار» فى الدنيا العربية.

مما يوسع المدى أمام إسرائيل لاستكمال جهدها الدائب فى مسح فلسطين عن الخريطة، واستبدال أهلها منذ فجر التاريخ وحتى اليوم بطوابير المستوطنين المستقدمين من أربع رياح المعمورة لكى تقوم «الدولة المركزية للشرق الأوسط» إسرائيل.

لقد سقط النموذج المعتمد لأهل النظام العربى: ديكتاتور يستولى على السلطة من خارج الإرادة الشعبية بل وبالتضاد معها. يصادر إرادة شعبه ومصادر دخله وثروته الوطنية التى يعتبرها إرثا شخصيا يوزعه بين أفراد عائلته.

يقرر وحده مواقف دولته، بلا الرجوع إلى أى مؤسسة، يحل الأحزاب والنقابات ويعيد تشكيلها بتنصيب أزلامه فى قيادتها، يمدد ولايته بلا نهاية، إذ يعتبر نفسه «المنقذ» الذى أوفدته السماء لإنقاذ الشعب من الضلالة.

يحارب الشيوعيين لأنهم ملحدون، والإسلاميين لأنهم مؤمنون أكثر من اللازم، والقوميين لأنهم يمدون بصرهم إلى خارج الحدود، والوطنيين لأنهم لا يسلمون بديكتاتوريته. يخاصم العروبة إذ يضعها فى وجه الإقليمية.

يفتح البلاد للنفوذ الأجنبى فى السياسة والاقتصاد، ويقرب أزلامه من النهاية فيوليهم على الاقتصاد، وتصبح السياحة أهم من الصناعة، والمشاريع الاستثمارية التى يشارك فيها أهم من الزراعة. وهكذا تروج تجارة الرقيق، ويقصد أهل النفط تونس للترويح عن النفس.
من الضرورى تسجيل مجموعة من الملاحظات على سلوك أهل النظام العربى إزاء الحدث التاريخى فى تونس، ثم إزاء الانتفاضة التى لم تكتمل فى الجزائر:

فى البداية كان الصمت المطبق. لعلهم اعتبروها «انتفاضة حرامية» تقمع فى ساعات، أو تعالج (على الطريقة الجزائرية) بالإفراج عن بضعة مليارات لتخفيض كلفة الحياة اليومية وشراء غضب الناس إلى حين.
ثم توالت الاتصالات على «الزين» لعل أهل النظام العربى يسمعون منه ما يطمئنهم على أوضاعهم. ولم يتورع بعضهم عن عرض المساعدة عليه، بل إن واحدا منهم نصح الشعب التونسى بأن يترك الزين ينهى ولايته الرئاسية لأنه الأفضل لتونس.
وفى حين دارت وزيرة الخارجية الأمريكية فى أرجاء المنطقة العربية تُطمئن أهل النظام العربى على مصيرهم وتثير عندهم المزيد من المخاوف من الخطر الإيرانى، فإن الرئيس الأمريكى لم يكلف نفسه توجيه كلمة رثاء فى صديقه «الزين» الذى فقد عرشه، وإنما توجه من فوق جثته للإشادة بالديمقراطية والمناداة بحرية الرأى والتعبير.

ضمير الشعوب العربية فى هذه اللحظة والمعبر عن آمالها، هو الشاعر التونسى العظيم الراحل أبوالقاسم الشابى. فعلى ألسنة الجميع قصيدته الخالدة التى مطلعها:

إذا الشعبُ يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر

ولا بُد لليلِ أن ينجلى ولا بُد للقيد أن ينكسـر

يمكنك أن تختار أى بلد، ففى كل دولة يحكمها ديكتاتور بقبضته الدموية ألف سبب وسبب لتفجر الشعب بانتفاضة ياسمين جديدة.

المهم أن يريد الشعب.. والباقى تفاصيل

No comments: