أعود بذاكرتى لتلك الأيام الخوالى.. كنت أثبت شاشة التليفزيون على القناة العراقية، وأتابع الرئيس– الديكتاتور– «صدام حسين» متحدثا لجنرالاته فى الجيش.. كان يعلن التحدى ويتحدث عن قوته وشعبيته.. تبدو الصورة ناطقة بالحب الجارف– الخوف الرهيب– حين يصفق الضباط للزعيم..
ومن الشوارع تنقل الكاميرات الشعب يهتف «بالروح بالدم نفديك يا صدام».. ثم سقط الزعيم والوطن فى بضعة أيام، وخسرنا العراق وكل ما كان عليه من ثروات مادية وطبيعية وبشرية.. ودارت الأيام لتتحجر الدموع فى العيون، يوم اغتيال ولديه «عدى» و«قصى» وصولا إلى ذروة الدراما بإعدام الزعيم بعد محاكمته.
تمر سنوات لأجدنى مشدوداً لشاشة التليفزيون.. فى البداية كنت أتابع أخبار ما يحدث فى تونس، عبر الفضائيات العربية وغير العربية.. تعامل الزعيم «زين العابدين بن على» مع شعبه بصمت لا يمزقه غير طلقات الرصاص.. ثم تكلم باستعلاء شديد.. وسقط المزيد من الشهداء الأبرياء.. وتتصاعد الدراما لتأتى لحظة يخرج فيها على رعاياه.. منكسراً مهزوماً.. محاكيا «شارل ديجول» ليقول: «الآن فهمتكم».. وما هى إلا ساعات حتى وجد نفسه معلقا فى الهواء.. باحثا عن أرض تؤويه.. انتهت الأسطورة مع موت هتاف «بالروح بالدم نفديك يا زين»!!
فى بغداد وتونس.. كان الإجماع على الزعيم واحداً.. وفى الدولتين سقط الزعيمان، وتبخرت من حولهما تلك القيادات التى كانت تسبّح بحمدهما.. كما تلاشت الجماهير بأسرع مما يتخيل عقل.
شتان الفارق بين العراق بكل ما كان يملك من ثروات، وزعيم حكم بلاده بمغامرة وجعلها تعيش على نار المغامرة.. ثم رحل فى آخر مغامرة.. أما فى تونس فهذا زعيم استولى على السلطة بنعومة.. وصور للدنيا أن شعبه يذوب فيه حبا وعشقا.. فقد كان يعذب رعاياه بنعومة.. واستحق أن يرحل بالنعومة ذاتها!!
فى العراق كان الإعلام قناتى تليفزيون وبضع نشرات– يقال عنها صحف– وفى تونس لا يختلف الوضع نهائيا.. بسقوط صدام انفجرت الحرية لنرى عشرات القنوات التليفزيونية، ومئات الصحف تمارس المهنة بحرية دون سقف.. أما فى تونس فقد انقلبت قناة التليفزيون التى كانت تسبح باسم وحمد الزعيم إلى واحدة من أكثر القنوات العربية جذبا للمشاهدين.. فقد اختفت وجوه تفوقت فى النفاق.. وأطلّت علينا وجوه شباب يمارسون إعلاماً حراً ومهنياً بتميز.. وانقلبت نشرات النفاق إلى صحف تسب وتلعن فى الديكتاتور المخلوع.
ما حدث فى العراق لا يمكن أن يحدث فى أى دولة عربية أخرى.. لكن الديكتاتور سقط فى النهاية.. وما حدث فى تونس يمكن أن يحدث فى أى دولة عربية أخرى.. المهم سقوط الديكتاتور.. ومن يعتقد أن المشهد جديد فأستطيع أن أدله على التجربة السودانية يوم أن سقط الديكتاتور «جعفر نميرى».. بانقلاب محترم سجل اسم «عبد الرحمن سوار الذهب» فى التاريخ.. ويمكننا استعادة ما حدث فى قطر حين انقلب الابن على أبيه بنعومة، وقال إن الديكتاتور يجب أن يرحل!!
دعونا ننحِّ نموذج الانقلاب العسكرى القديم فى السودان.. ونموذج الانقلاب العسكرى الحديث فى العراق.. ولنتوقف أمام انقلاب القصر فى الدوحة.. وثورة الشعب فى تونس.. ففى قطر تم توظيف الثروة لتسجيل انتصارات لها بريق الذهب– وليس كل ما يلمع ذهبا– فقبل أيام كانت قطر حديث الدنيا، بإنجازها الفريد حين انتزعت شرف تنظيم كأس العالم لكرة القدم ٢٠٢٢..
وشاءت الأقدار أن تحمل إرادة شعب شديد التحضر والرقى، هو «الشعب التونسى الشقيق» الذى قدم نموذجا لثورات العصر الحديث.. فمن قطر لفتنا أنظار الدنيا – بفعل الثروة – وزهونا ببلوغ إنجاز كروى رائع!!.. أما تونس الثورة، فقد قدمت الدليل والبرهان على أن العرب قادرون على انتزاع حريتهم بواحدة من أشرف الثورات.. وقادرون على محاصرة كل من يعتقد فى قدرته على خنق الثورة.. وقادرون على تقديم نموذج متميز للعبور الآمن نحو المستقبل.
المثير أن كل الذين كانوا يعلنون أنهم «بالروح بالدم» يفتدون الديكتاتور، انقلبوا عليه وتقدموا صفوف الذين يفضحونه ويشهرون به.. ففئران السفينة يقفزون منها بالخفة ذاتها، التى يمارسون بها النفاق.. فأولئك لا يعرفون حمرة الخجل، لذلك يمكنهم أن يكونوا نجوما لمرحلة ما بعد سقوط الديكتاتور..
إلا فى الحالة التونسية.. لأن الثورة هنا هى ثورة شعب يعرفهم ويفرض عليهم أن يتراجعوا إلى الخلف فى صمت.. هذا الدرس تعلمه رئيس الوزراء التونسى فى عهد الرئيس المخلوع.. فقد حاول التبرؤ منه مع نفر آخرين من كبار المسؤولين والوزراء.. فشلت كل محاولاته.. لأن الشعب منهم برىء.. عندما يسقط الديكتاتور يتكرر المشهد.. والثورات ليست أصلا وصورة أو عدة صور.. فكل ثورة تختلف عن الأخرى.. ويشعل نيرانها وقود واحد اسمه الديكتاتور عندما يستبد به الغباء!!
نصر القفاص
No comments:
Post a Comment