بينما كانت مذبحة الانتخابات، أو مهزلة الانتخابات تشغل مصر من أقصاها إلى أقصاها، المرشحون يذبحون العجول ويعدون «الكرتونات» ويتساءلون: تمن الصوت هيبقى كام النهاردة؟..
كانت قطر تظفر بالمونديال ويتفوق الملف، الذى عرضته على ملف الولايات المتحدة وتتغلب على معارضة أمريكا وإسرائيل وبقية الدول المتنافسة، وما كان هذا ليحدث إلا لأن هذه الدولة الصغيرة قفزت على المراحل بحيث وصلت إلى هذا المستوى المبهر، وتقهر معارضة كبار الدول، وتعرض على العالم صورة التقدم القائم على العلم والعمل، بحيث استطاعت أن تتجاوز عشرات العقبات التى كانت تحول بينها وبين الدول الأخرى وتدخل فى منافسة دولية ثم تظفر بالنجاح.
لم تعد القضية قضية الانتخابات، إنها قضية دولة عظيمة وأمة عريقة لها تاريخها فى الماضى السحيق، ولها إنجازها فى العصر الحديث، وكانت بشهادة الأعداء والأصدقاء «الأم» أو «الأخت الكبرى» أو «المعلمة» لكل الدول العربية التى لم يتهيأ لها ما تهيأ لمصر، وكانت ملاذاً للأحرار، ومركزاً للإشعاع الثقافى والحضارى.
هذه الأمة العظيمة ابتليت بنظام قطع مسيرتها الليبرالية التى بدأت مع دستور ١٩٢٣م، الذى كان يناقش الميزانية بندًا بندًا، بما فى ذلك المخصصات الملكية، ويناقش سياسة الوزارة ويقدم استجوابات تؤدى إلى استقالتها، حل هذا النظام دستور ٢٣ وجاء بدساتير هجينة، واستتبع كل النقابات، وأشاع الإرهاب،
وفتح باب المعتقلات للجميع: الضباط.. الشيوعيين.. الإخوان المسلمين واليهود والمسيحيين، ومن الغريب أنه- كما قالوا- ظفر بثقة ٩٩.٩٩٩٪ من أصوات الشعب، وحدثت وكسة وهزيمة ١٩٦٧، فكشفت أنه بيت من ورق، وجاءت بإسرائيل على شط القنال، وأفقدتنا سيناء، وأفقدت الفلسطينيين دولتهم وقدسهم، وأعادتنا مائة سنة إلى الوراء، ولم يستطع انتصار رمضان أن يغير النظام، ولم يستطع السادات أن يحقق ما أراده من إصلاح ثم جاء العهد العقيم، عهد الفساد.. عهد الخداع والتنويم..
عهد سيطرة الرأسمالية المتطفلة وسياسة البنك الدولى التى أوجدت بضعة من أصحاب البلايين يعيشـون فى مدن منعـزلة «كومبوند» بعيدة عن الشعب ويأتى لهم بالطعام والشراب من الخارج، وتحرسهم فرق مرتزقة، وإذا تحركوا فبالسيارات فوق الكبارى أو بالطيارات أو باليخوت، بينما تعيش أغلبية الشعب فى فقر مدقع فى العشش والقبور يأكلون مواد مسرطنة ويشربون من ماء الصرف ويحيون حياة كلها نكد وشقاء وحرمان.
وأوجد هذا النظام أحزاباً ورقية تبيعة، تعيش عالة عليه وتهتف له ليدعى أن فى مصر تعددية حزبية.
وكان الهم المقيم المقعد للحكام، الذى سيطر عليهم تمامًا هو مد هذا الحكم على المستقبل حتى لا يأتى نظام آخر ينزلهم من الجنة العالية والنعيم المقيم الذى هم فيه، فنظموا انتخابات وأغروا كل الهيئات بالاشتراك فيها، بعد أن أقسموا أغلظ الأيمان أنها ستكون انتخابات نزيهة،
وانطلت الخديعة على حزب الوفد وعلى الإخوان فاشتركا وكان يمكن للحزب الحاكم أن يمارس التزييف بحيث يسمح لكل منهما بعشرة مقاعد مثلاً، وكان هذا يغريهما بدخول جولة الإعادة، بأمل أن يسمح لكل منهما بخمسة أو ستة مقاعد، وبهذا تتحقق خطة الحزب، فيحصل على أغلبية الثلثين المطلوبة ولا يضيره ما حازه الوفد أو الإخوان، وفى الوقت نفسه يظهر أمام العالم أنه نظم انتخابات، اشترك فيها كل الأحزاب والهيئات.
ولكن حزب الحاكم استسلم لفكرة الاستئثار والانفراد التى هى فى طبعه وبوجه خاص تجاه الإخوان، فأراد أن يستبعدها تمامًا، فلم يسمح لها ولو بمقعد واحد ولم يسمح للوفد إلا بمقعدين، وتنبه الوفد والإخوان إلى خطئهما عندما وثقا بوعود الحكومة، ودخلا الانتخابات وأعلنا انسحابهما ورفضا الدخول فى جولة الإعادة، وبهذا الموقف صححا الخطأ الذى وقعا فيه، وأصبح المجلس دون معارضة، مجلس لا يمثل إلا الحزب الواحد، وهذه هى نتيجة الطمع الأشعبى ونزعة الاستئثار.
وتصور الحزب الحاكم أن هذا الموقف سيعزل الهيئتين الكبيرتين عن العمل السياسى مادام البرلمان قد أغلق أبوابه أمامهما، فى حين أنه دفعهما لانتهاج السياسة المثلى وهى سياسة العمل عبر الأمة وليس عبر المجلس.
الفرصة السانحة الآن أمام الوفد والإخوان ليكونا معًا «جبهة» تتعاون تعاوناً قلبيًا مخلصًا مع الدكتور البرادعى ينضم إليها كل الساخطين على الحكم، ويكون لهذه الجبهة وجود ثابت ودائم، ولها خطة عمل تتجلى فيها:
أولاً: المساهمة بكل قوة فى حركة التغيير- أى التعديل الدستورى الذى يستبعد كل المواد التى تشل الحريات وتفرض العمل بقانون الطوارئ، وتنتهك حقوق الإنسان.
ثانيًا: العمل لتحقيق استقلالية القضاء، واستبعاد كل صور العدوان والتطفل عليه عن طريق وزارة العدل أو غيرها، وتحريم محاكمة المواطنين إلا عن طريق قاضيهم الطبيعى.
ثالثاً: استبعاد سياسة «نهب مصر» التى تسلم الشركات والمصانع إلى مستثمر أجنبى يكون أول شىء يفعله هو تسريح العمال وبيع الأراضى الفسيحة للمصنع بأضعاف ما دفعه، وكذلك إعطاء الأراضى بالأمر المباشر أو بوسائل ملتوية للمقربين من الحكم بأسعار هزيلة ليقيموا عليها منتجعات ومدناً سكنية، وتركيز الاستثمار فى السياحة وإهمال الصناعة والزراعة وإفساح المجال لفئة نزلت باسم أصحاب الأعمال إلى درك التطفل والعمالة والعمولة والسمسرة واستيراد المنتجات الفاسدة، وتحريم الاستدانة، لأن الاستدانة هى رمز العجز عن حل المشكلات وتحميلها للأجيال القادمة.
رابعًا: القضاء على الفساد واستخلاص حقوق البلاد من المفسدين كائناً من كانوا، بدءًا من المحليات، حتى الذين يلوذون بأعلى المستويات، ورفض الادعاء بأن الفساد فى كل البلاد، فهذا كذب وحتى لو وجد فليس بالنسبة الوبائية التى أخذها فى مصر.
إن الصورة المثلى لمثل هذه الجبهة، هى التى تضم الإخوان والوفد وأن ينسى كل منهما طبيعته الخاصة، لتركيز الجهود فى القضية المشتركة قضية التغيير، فإذا تحققت فإن الجبهة تكون قد أدت دورها وحققت لمصر الخلاص.
على أن الجبهة يمكن أن تقوم على أحدهما عندما تنضوى تحت راية البرادعى وتستجلب أنصارها من كل الفئات الساخطة وما أكثرها، إن النقابات العمالية والمهنية التى شاهدت الويل من العهد سترحب بالمشاركة التى ستحررها من قوانين الوصاية المفروضة عليها، ويمكن لهيئة التغيير أن تؤسس لها مراكز فى كل المحافظات تقبل آحاد المواطنين، الذين سيصلون فى مجموعهم إلى مئات الألوف.
أما إذا عجز الوفد والإخوان عن العمل فإنهما سيضعان نهايتهما بأنفسهما، ولن ينقذهما شىء آخر.
فلنعمل جميعًا لعل وعسى نصل إلى ما وصلت إليه قطر!!
كلمة أخيرة خاصة بالإخوان المسلمين:
لقد نشرت فى هذه الصحيفة مقالاً بعنوان «دعوها فإنها منتنة» أوضحت لكم فيها أن الانتخابات الفردية هى أسوأ صور النفاق والادعاء والكذب، وأن الحزب الحاكم لن يدعكم وسيستخدم خبرة خمسين عامًا فى التزييف وقوة مليون وأربعمائة ألف هم الأمن المركزى، وحتى لو انتصرتم،
فما قيمة هذا الانتصار أمام الأغلبية المستسلمة والتى يصل حماسها ضد المخالفين حد استباحة إطلاق الرصاص وكل استجواب يكشف عن فضيحة مدوية كان ينتهى بتقديم الشكر للحكومة، باختصار العمل فى المجلس عقيم، وهو يصب فى مصلحة الحكم.
لم تقبلوا وجهة نظرنا، وادعيتم أن الخطة المقررة للجماعة هى المشاركة فى الانتخابات، فمن أين جئتم بهذا وكل المقالات المعلنة للإمام الشهيد ضد ذلك، اقرأوا هذه المقالات التى أوردنا بعضها فى كتاب «من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة»،
اقرأوا مقال «نحن وطنيون لا سياسيون ولا حزبيون» (جريدة الإخوان المسلمين اليومية ١٥/١٠/١٩٤٦م)، وجاء فيه بالحرف الواحد: «وحين بدا لهم أن يخوضوا معركة الانتخابات البرلمانية لم يريدوا أن يكون ذلك باسم الهيئة، بل أصدرت الهيئة قرارًا بالإذن لمن شاء من الإخوان أن يرشح نفسه بذلك، على أن يكون بصفته الشخصية لا بصفته الإخوانية، حرصًا على ألا تقحم الهيئة بصفتها العامة فى خصومة الأحزاب السياسية».
وهناك خمسة أو ستة مقالات أخرى أوردناها فى الأجزاء المختلفة لكتاب «من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة»، وكتاب «مسخرة التاريخ.. حقيقة مسلسل الجماعة» كلها تستبعد العمل الحزبى والدخول فى الانتخابات.
فأنتم تعملون ضد ما تصوره وما كتبه وكرره الإمام الشهيد من عدم إقحام الهيئة فى غمرات الانتخابات، وعيبكم أنكم لا تقرأون حتى تاريخكم عندما يكتب من غير أعضائكم، حتى لو كان جمال البنا.
Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment