يواصل الدكتور احمد عكاشة استاذ الطب النفسي تحليل التركيبة النفسية والاجتماعية والسياسية التي آل إليها حال المصريين بعد نحو ثلاثين عاما من القهر والكبت السياسي.
في الجزء الاول من الحوار اكد عكاشة ان مصر تحولت الي نظام خائف يحكم شعبا من الخائفين معربا عن عدم تفاؤله برجال الحكم لانهم غير قادرين علي تحسين الاوضاع وان الحكومة بلا مصداقية
l هناك رأي متشائم يري أنه لو استمرت الأوضاع القائمة لفترة أطول، ولم يتصدر من تسمونه »القدوة« المشهد المصري، فسنتحول لمرحلة ما تسمي »الأنومي« وفيها يري كل شخص أنه هو السلطة ويسن قانونه الخاص وينفذه، طالما رأي أن السلطة انسحبت عن دورها في ذلك، ويصل المجتمع المصري والدولة المصرية لمرحلة التفكك.. هل نحن مقبلون علي هذه الفترة؟
llنحن بالفعل موجودون في هذه الفترة.. الآن لا وجود لهيبة الدولة ولا للأمن، والقضاء بطيء، والحكومة أول من يعرقل تنفيذ أحكامه، إذن إذا كنت أريد الاحتفاظ بكرامتي يجب أن أحصل علي كل شيء بنفسي؛ فأصبح القانون في إجازة، والحكومة ضعيفة، والناس لا ترهب الشرطة إطلاقًا.. هذا ما حدث في قانون المرور، وكذلك قانون رعاية المريض النفسي الصادر في العام ٩٠٠٢ من أجل الحفاظ علي حقوق المريض النفسي، لتأتي الدولة بعد أقل من عام وتحاول ان تهدم المستشفي الذي يعالج المرضي النفسيين بسعر رمزي، كل شيء متناقض.
lهل يمكن اعتبار دراسة وزارة التنمية الإدارية التي أجرتها بالتعاون مع مركز دعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء عن قيم المصريين والتي أظهرت أن ٩٤٪ من المصريين باتوا يتقبلون الفساد ويمارسونه، هل هذه القيم المختلة تعتبر جزءاً من مفهوم التوحد مع المعتدي، وهو السلطة الفاسدة في هذه الحالة؟
llعندما يكون لديك انسان يرغب في الحياة ولديه ٤ أولاد وراتبه ٠٠٤ جنيه، فكيف سيعيش؟ كذلك لا يوجد تعليم جيد، أما الصحة فحالها في مصر يبعث علي السخرية، فالفقير الذي سيصاب بمرض عضال سيموت قبل أن يجد العلاج، وكأنما هناك فكرة مسلطة أن عددنا زاد علي الحد، ويجب أن نتخلص من الضعفاء للحد من الزيادة، هل هناك في العالم تأمين صحي يقتصر علي معالجة امراض معينة لا يتكلف علاجها مبالغ كبيرة، كما هو الحال في بلدنا؟!
lد.عكاشة أنت لامست المناخ السياسي في حقبة الستينيات، في فترة شهدت مزاوجة بين الثقافة وصناعة القرار السياسي، لو حاولت حضرتك مقارنة تلك الفترة بالمطبخ السياسي الحالي والمزاوجة التي يشهدها صناعة القرار السياسي ورأس المال.. كيف ستقارن بين الفترتين؟
lالفترتان مختلفتان تماما.. كانت الأولي فترة تحرر وكنا بالنسبة للعالم المحيط بنا مثلا أعلي، وكان يحكمنا شخص بكاريزما طاغية، وشعر الشعب بالكرامة، وكان هناك مشروع صناعي متميز، وإن كان في وقت الثورات يتعرض قطاع من الشعب للظلم، فلم تتجاوز نسبة هذا القطاع في ثورة يوليو 1٪ من الشعب وهم طبقة الأثرياء والإقطاعيون.
لا أحد ينكر أن الفلاح والعامل في عهد عبد الناصر كانوا في أفضل حالاتهم، ولو يغير من ذلك ضحايا الثورة وهو الاحتمال الموجود في كل الثورات، ولنقارن مثلا بعدد من قتل في الثورة الفرنسية أو الشيوعية، ففي الثورة المصرية 1952 كان عدد الضحايا 15 فردا تقريبا، لذلك لا نجد في أي مكان بالعالم دولة يهزم جيشها ثم يخرج الشعب للتمسك بالحاكم ويرفض رحيله، ربما كانت تلك هي صورة السلطة الأبوية.
lالأب أم الفرعون؟
llلا الأب.. الذي يوفر لك سبل البقاء والحماية، ويطلب منك أن تبتعد عن السياسة لتحصل علي مكتسبات.
lالبعض يري أن هذا الاعتماد الكامل علي النظام في كل شيء كان بداية الانهيار؟
llلا.. بل كانت فترة مكتسبات للطبقات الكادحة، وكان يجب أن يتم تلافي أخطاء تلك الفترة فيما بعد وهو ما لم يحدث، ومن جاء بعد الحقبة الناصرية عمل علي هدم مشروعها ولم يسع لتلافي أخطائها، علي العكس تمامًا شهدت أمريكا في بداية توحدها حرباً أهلية ثم تمييزاً عنصرياً، أما الآن فقد تغيرت أمريكا وتوحدت وصار رئيسها أسود اللون..
كل فترة لها وعليها، ولكن الجمود الذي حدث لنا في الـ 30عاما الأخيرة سبب لنا نوعاً من البلادة، علي عكس الشعوب المتقدمة التي تتسم أنظمتها بالعدل، وانظر للاحتجاجات التي عمت باريس بسبب قانون مد سن التقاعد وكان المشاركون فيها معظمهم من الشباب، وكذلك الاحتجاجات الطلابية في لندن علي رفع مصاريف الدراسة.
lد. عكاشة.. نلمح في خلفية مكتبك صورة الرئيس مبارك وهو يقوم بتكريمك.. عندما تلتقي مع رجال النظام ومؤسساته، ألم يقم أي منهم باستشارتكم في سبل التصرف في هذه الأوضاع؟ ام انهم لا يستشعرون بأن البلد فيه مزاج اكتئابي وتمر بأزمة؟
llالحزب الحاكم يتسم بعدم القدرة علي الحوار، ومن ثم يعتبر انه دائما علي صواب، وهذه مشكلة كبيرة، وأيضا تجد ذلك في تيارات المعارضة، وعندما أكون مع رجال السلطة، يؤكدون أن أرائي صحيحة ولكن من الصعب تحقيقها، ولكي نفهم ما يقصدونه يجب أن نلاحظ أن أي وزير لم يعينه الشعب ولا يسائله الشعب ولن يغيره الشعب، فيكون ولاؤه لمن منحه السلطة وليس للشعب، وبالتالي فهم سيستمعون فقط لآراء السلطة حتي وإن جانبها المنطق.
lإذن لم يحدث أنه تمت استشارتك بشكل مباشر للبحث عن حلول لمشاكل المصريين، ومزاجهم العام؟
llحدث بطرق غير مباشرة، فأنا أعرف الكثير من رجال السلطة بشكل شخصي، وأقول لهم رأيي بصراحة، ولكن شهوة السلطة التي تفوق سلطة التعقل، وتنتصر فيضيع نصحي ورأيي هباءً.
lألا يشعر رجال السلطة بالخطر أو الرهبة من ثورة الشعب؟ أم أنهم يعتبرونه شعبًا مستكينًا لا خوف منه؟
llبرأيي أنه هناك نوعان من رجال السلطة، نوع يعتبر أن الشعب مستكين »تجمعه زمارة ويفرقه كرباج«، وهذا ليس صحيحا، وفريق آخر داخل السلطة في حالة خوف من الشعب، نحن في وضعية بلد خائف.. حكام خائفون يحكمون شعبا خائفا.. وتجربة الانتخابات الأخيرة التي فاز الحزب بـ 95٪ من مقاعدها تثبت ذلك، ما السياسة وراء ذلك غير الخوف؟!
ما زلت أعتقد أن أعضاء الحزب الوطني يحبون مصر، وكذلك الحال في الإخوان المسلمين وفي الوفد وباقي التيارات، أنا لا أخون احدًا، إنما المشكلة تكمن في غياب القدرة علي الحوار والاستفادة من أفكار الفريق الآخر، إنها مشكلة الشعب بأكمله.
طبعا هنا لا أتحدث عن الخائنين ولا اللصوص ولا الفاسدين، وللأسف هم الغالبية بحسب دراسة لمركز دعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، والتي تكشف أن 94٪ من الشعب يقبلون صورة من صور الفساد ويمارسونه، إذن يبقي هناك 6٪ جيدون ويمكن أن يغيروا النسبة الغالبة، ويمكن أن يقودوا بمبادئهم وأيدلوجياتهم، و6٪ رقم كبير لقيادة التغيير.
إذن المشكلة مشكلة مصداقية، وكذلك انعدام الثقة، وايضا سبق وأجريت دراسة عن الثقة وجدت أن 84٪ من المصريين لا يثقون في بعضهم البعض أو أجهزة الدولة، وغياب الثقة يعني غياب الحب.. أي أن 84٪ من المصريين لا يحبون بعضهم البعض، وهذه وحدها أزمة.
أزمة بشر
lهل أصبحنا أسوأ يا دكتور فيما بيننا؟
llفي رأيي أن الجنة بشر والنار بشر والدنيا بشر، والبشر هم سبب سعادتنا أو شقائنا، وقصة جان بول سارتر »الجحيم هو الآخر« التي يري كاتبها أن العذاب في الجحيم الأبدي هو بالحياة مع أناس سيئين، واقعية تماما، وسبب أزماتنا في مصر، أننا صرنا سيئين فيما بيننا، وطالما صحة المواطن النفسية في حالة غير سوية، فسيتمركز الإنسان حول ذاته، ولا يتمركز حول الآخر، وأحد القيم الأخلاقية في الدين والعدل، هو تجاوز الذات مما يحقق السعادة أكثر، ومثال ذلك بيل جيتس الذي وهب ثروته لعلاج الفقراء في إفريقيا وآسيا، لقد سعد بتجاوز ذاته، وتبعه في ذلك عدد من مليارديرات العالم.
من النادر أن تجد شخصاً يتجاوز ذاته، سئلت في أحد المرات سؤالا شعرت معه بالحرج من نفسي، كان السؤال هو: لقد حققت الكثير مما يتمناه الناس علي المستويين الشخصي والمهني، وكذلك علي المستوي العالمي، فمتي فكرت ان تخدم الشعب، هل منذ صغرك أم بعدما حققت ما تتمني فتجاوزت ذاتك؟
أجبت أنني كنت مشغولاً بذاتي وتخصصي، ولكنني لم أتوقف عن خدمة الوطن بعد عودتي، وقررت أن أعود بعد بعثتي من لندن، ولم أفضل الاستمرار مثلما فعل الكثير من زملائي، وعرضت علي مناصب جامعية في دول متقدمة ورفضتها، فكان لدي تجاوز الذات لكنه لم يتفجر إلا بعدما كبرت، وهذا التجاوز للذات وجدته يؤذي عدداً من المسئولين الذين نصحوني بالبعد عن الحديث في السياسة.
lهل حدث لك تهديد بسبب مواقفك وآرائك اللاذعة فيما يتعلق بالحالة السياسية والاجتماعية في مصر؟
llطبعًا لو أرادوا تهديدي فهم قادرون علي ذلك بطرق مختلفة، لكن في الحقيقة إلي الآن لم يحدث أن تعرضت للتهديد المباشر، ولكن أحيانا تصلني رسائل في صيغة مزاح، فعلها مرة أحد رؤساء الوزارة ولا داعي لذكر اسمه، كما يحاول أصدقائي من المسئولين نصحي بتهدئة وتيرة آرائي، أو علي الأقل أن أقتصرها علي مستوي سياسي معين لا يتجاوز للأعلي منه، ولكن أحيانا يطلب مني مسئولو قنوات تليفزيونية عدم تخطي حساسيات معينة.
lبمناسبة ما يثار عن نقل وهدم مستشفي »العباسية«.. هل تعتقد أن الدولة عازمة بشكل جدي علي نقل المستشفي، أم سترضخ للأصوات المعارضة لتلك الخطوة؟
llقلتها في وقت سابق.. إننا نعوي ولا نعض، سواء إعلاميين أو معارضين، وما حدث أن هذا الأمر حدث منذ أكثر من 16 عاما في عهد د. علي عبد الفتاح المخزنجي، وزير الصحة الأسبق، وكان صديقاً لي، وعندما ذهبنا كأطباء نفسيين لمناقشته في الأمر، اقتنع بآرائنا وسحب الفكرة، ثم جاء د.إسماعيل سلام ليقوم بتوسعة مستشفي العباسية، ويضيف إليه مبنيين.
وما حدث هذه المرة أنه تمت مناقشة موضوع إقامة أرض معارض كبري في هذه المنطقة، وذلك في شهري مارس وسبتمبر الماضيين بمجلس الوزراء، ولكن الرسم الذي عرض حينها لم يشتمل علي أرض مستشفي العباسية، غير أن من يعلم قيمة الأرض في هذه المنطقة، في ظل حاجة الدولة لأموال تدعم بها خزانتها، بدليل فشلها في توفير اعتمادات لزيادة رواتب الأطباء مما دفعها لتحصيلها من جيوب المرضي الفقراء الذين يراجعون المستشفيات الحكومية، وعلي هذا الأساس يري البعض أنه صدرت تعليمات لوزير الصحة بنقل أرض المستشفي لاستثمار أرضها.
وربما تصريح وزير الصحة في صفحة الدولة بصحيفة الأهرام الخميس 23-12-2010 والذي قال فيه إنه »لم يأت لي خطاب حتي الآن بهدم مستشفي العباسية« يشير إلي أن هناك نية بالفعل ولكن ربما تكون مؤجلة، ونحن نطالب الوزير بأن يصرح بانه لا يمكن هدم هذا الصرح بأي حال من الأحوال، وليس بنفي تسلمه إخطاراً بالهدم.
lفي إطار ما يحدث للمصريين وما يمرون به من أعراض مرضية، ألا توجد مبادرة من جانبكم بالتعاون مع المجتمع المدني لإيقاف مشروع هدم مستشفي العباسية؟
llأعتقد أن المبادرة يجب أن تأتي كذلك من الإعلام، فيجب أن يعمل علي صناعة رأي عام ضد هذا المشروع، ولو وصلت أصداء الاعتراض لرئيس الجمهورية أثق في أنه سيعطي أوامره بوقف هذا المشروع.
- علي ذكر المبادرات.. ألا توجد مبادرة تتولي قيادتها للتعامل مع ملف الصحة النفسية للمصريين، بتوفير العلاج النفسي المجاني والراقي لفقراء المصريين؟
llهناك مركز عكاشة للطب النفسي في جامعة عين شمس الذي يراجعه يوميا أكثر من 70 مريضًا دون أية مصاريف أو رسوم، بما يساوي عدد من يراجعون مستشفي »العباسية« سنوياً، وفيه قطاع اقتصادي لتغطية نفقات علاج الفقراء.
lلكن ألا توجد مبادرة لإنشاء مستشفي للطب النفسي قائم علي التبرعات علي غرار مستشفي سرطان الأطفال 57357.
llتجربة مستشفي سرطان الأطفال غير قابلة للتطبيق مع الطب النفسي، فهي تجربة يقف خلفها رموز في السلطة، كما أنني أعتقد أنها كانت لها أثر سيئ علي معهد الأورام الذي يعالج عشرات الآلاف سنويا، وقضت علي التبرعات التي كانت تخصص له واستحوذت عليها، لصالح عدد محدود من المرضي يعالجهم المستشفي، ثم إننا لا زلنا في مجتمع لا يعتبر المرض النفسي له الأولوية في العلاج.
رسالة إلي المصريين
lفي النهاية.. نريد رسالة من د.أحمد عكاشة لكل من النظام الحاكم، والشعب للتعامل مع الأزمات التي تمر بها مصر الآن..
llأقول للشعب.. مستقبل أولادكم مسئوليتكم، وليست مسئولية الحزب الحاكم، كن إيجابيا وطالب بحقوقك ولا تتنازل عن حقوق مهدرة حتي إذا نمت في الشارع احتجاجا.. تكاتفوا.
وللحزب الحاكم.. أتمني أن يكون كلامكم المعاد منذ 10 ـ15سنة باهتمامكم بذوي الدخول المحدودة، أتمني ان يصدق هذه المرة، ولكن للأسف إن ما رأيناه ونراه خاصة في مجال الصحة والتعليم، لا يفي ولا يتوازن أو يتواكب مع وعودكم.. أرجوكم.. أنا لا أشك في وطنية أعضاء الحزب ولا التنظيمات السياسية.. أرجوكم اجعلوا بينكم الحوار، لا تفتقدوا عقولاً مبدعة ومنتجة لا تنتمي للحزب الوطني.
هذه الفرصة الوحيدة أمامنا للنهضة وأنتم القدوة، ولا يمكن أن يوجد شعب ينهض بلا قدوة، وقد قيل أن الأمم تنهض ليس بالقوي العسكرية ولا السياسية ولا الاقتصادية، ولكن بأخلاق مواطنيها، دعنا نعمل علي أن تعود أخلاق المصري كما سبق.. كرامة.. عزة.. شموخ.. شهامة وتجاوز للذات.
lونصيحة للمواطن الذي يشعر بأنه يعاني حالة الاكتئاب من الأوضاع الحالية، ويغلبه اليأس.
llيجب أن تتكيف لتعيش، ونحن لا نعالج من عنده أعراض اكتئابية، هذه مهمة صانع القرار السياسي وليس الطبيب النفسي، الطبيب يعالج أمراضًا وليس مشاكل حياة، فلا تحمله مسئولية أعراض بطالة وغلاء وظلم ووووو.
كتب: عادل القاضي وهشام عبدالعزيز
No comments:
Post a Comment