أصالة الحمير فى مأزق خطير
ملخص ما نُشِر: بعد أن توافق الراوى وصديقه على ترشيح الحمار حيوانا وطنيا رمزيا للبلاد، وتعزيز هذا الترشيح بمواقف حميرية أصيلة فى تاريخ البلاد المعاصر، كما فى التاريخ الثقافى للأمة وللبشرية بعامة، يستعيد الراوى ذكرى موقف للحمار عاينه فى طفولته المبكرة وأحدث انقلابا فى مفاهيمه عن حقائق الحياة وأسرار حيويتها، ويبدأ فى توسيع الدلالات من هذا الموقف الذى يلقى الضوء على مناطق متوارية فى العتمات السيكو والسوسيو بوليتيكية للبشر، لكن سؤالا ظل يحيره، عن حزن دفين ركب حمار الموقف البعيد ذاك، وظل يمتطى الخاطر!
بقوة عاصفة صافية قفزت الفرس خارجة من الحفرة، وانطلقت تركض ركضا ساحرا، لم تكن تفر، بل تدور رامحة فى الأرض الشاسعة الخالية، تدور وتدور، «فرحانة»، هكذا علق الرجل الذى كان فى الحفرة، وهى كلمة بلورت لى معنى خارق الجمال فى هذا الفعل الذى بدا لى عيبا فاحشا من قبل، أيام انخراطى فى جوقة عيال نشيد الخروف والسطوح.
كانت الفرس تدور رامحة وتدور بينما الرجال يضحكون بانبساط، وقد شاع فى المكان الشتوى الترابى العارى، دفء ودود، وبدا لى أن الشمس صارت زاهرة أكثر.
أما الحمار، فبدا هامدا صامتا كأنه تجمد فى مكانه، كأنه لا يدرك قيمة الزلزال الذى فجره فى حفرة ملعب المخزنجى، وفى وعى الطفل الذى كنته، إذ عرفت السر عاريا كامل الانكشاف، بعد تراث من التغطيات العبيطة على الحقيقة، والتى تقول فى أحشم الحالات أنهم أخرجونا بشق بطون سمانات أرجل آبائنا التى تنتفخ بنا بعد زواج الرجال من النساء، أو شق بطون أمهاتنا التى كبرنا فيها بعد بوسة لأمهاتنا من آبائنا على الفم، وفى حالات الغضب علينا كان يقال لنا إنهم وجدونا رُضَّعا فى خرقة أو كومة قش على عتبات المساجد أو أمام أبواب الدور عند الفجر.
لقد أنهى ما أنجزه الحمار مع الفرس زمن كل هذه الترهات وعرفت منه سر أسرار حيوية العالم وتواصُل الأحياء فيه. وهو سر رأيته أمرا يدعو الأفراس إلى فرح يوشك أن يجعلها تطير. نشوة محلقة الجمال تدعو إلى المحبة، واحترام الحياة. فقد استقر فى ذهنى ما رأيته وأنا طفل مع بهجة أن تحمل الفرس وتلد مهرا. مُهر صغير جميل زين لى خيالى امتلاكه ومصاحبته.
ومن ثم كان الفعل كله فى دائرة البراءة شفافا بكل ما فيه من إثارة وحميمية وعرامة وتفجُّر حسىِّ. وبرغم علانيته التى تبدو للكبار فاضحة، بدا الأمر لى يومها سريا وكونيا وسحريا ونقيا نقاء بذرة تنشق عن نبتة تغدو شجرة تزهر ومن زهورها ينبثق الثمر.. أطيب وأطهر الثمر!
لم يكن لى فى هذا العمر والحمد لله أن أعرف أن هذه كانت عملية تهجين أو تعشير بسطوة بشرية للحصول على دابة قوية شبه بكماء للتسخير، وأن الهجين الطالع لن يكون مُهرا وليدا ولا جحشا يرضع. بل سيكون بغلا شديد البأس مقطوع النسل، ليس حرونا كأبيه الحمار ولا عصبيا كأمه الفرس، ومُذعن لاستبداد من دبروا ذلك التهجين الذى لا يحدث أبدا فى البرية إلا تحت وطأة شدة يصل فيها النوع إلى حافة الانقراض أو التهديد بالزوال.
وتكون الهجائن الناتجة عقيما وغير قابلة لتوريث خلطتها الجينية، فتظل نادرة إلى درجة التلاشى كما فى الهجين الناتج من تزاوج الحمار الوحشى المخطط مع حمارة أهلية بلا خطوط، فينتج عن تزاوجهما بغل وحشى Zonkey أو «حُميراش»، قليل الخطوط وعقيم ومرشح للانقراض.
وهى حالة مادية من التجريف الوراثى بالتخليط المتعسف للجينات تؤذن بسرعة هلاك وانقراض الكائن المُخلَّط فى ظروف قسرية ومُخترِقة لتوافقات وتآلفات المنظومات الحية المستقرة عبر آلاف ومئات وربما ملايين السنين، حيث تُطوِّر الكائنات الحية نوعا من المناعة الذاتية يحول دون خلط جيناتها بجينات مختلفة ولو كانت من العائلة نفسها كما بين الخيول والحمير فى العائلة الخيلية، والنمور والأسود فى العائلة السنورية، بل تمتد هذه المناعة ضد منح أو أخذ جينات من أقارب الدرجة الأولى مما يمثل خطورة على جينات النوع نفسه أو يسبب إضعافا لها، فالكائنات الحرة فى الطبيعة البرية لا يحدث بينها سفاح محارم، ولا تهجين متعسف، فقط عندما يصل النوع إلى ما يسميه أهل علوم الوراثة «عنق الزجاجة»، يقع المحظور بالفطرة، وتَفْسَد دورة الحياة، كأن تُحشر الأنواع المتباينة فى حيز ضيق معا تحت وطأة الشدة، أو يصل عدد النوع الواحد فى بيئة ما إلى حد الندرة، فيحدث ما لا يحدث أبدا فى الحالة السوية.
ويقع ما يسمى فى علم العشائر والوراثة «الاستيلاد الداخلى» أو سفاح المحارم فى دنيا البشر، ونتائج كل هذا «العك» الوراثى القهرى لا تكون حميدة أبدا، بل خروج أنسال ضعيفة التوالد فى أفضل الحالات، وعقيم فى معظمها، وما التهجين القسرى إلا محاكاة، لا لسوية الطبيعة، بل للانحراف فيها، والنتيجة عقم، عقم يصل بالنسل إلى التشوه وحافة الانقراض، فى الحيوان كما فى الإنسان كما فى النبات، فهل نتعظ من خلط الحمير الأهلية مع الحمير الوحشية؟ والحمير مع الأفراس؟ والخيول مع الأتن؟ هل نتعظ من أمثولة الحمير؟
هل نتعظ مرتين؟ مرة لأننا محشورون فى عنق زجاجة من التزاحم وعدم الوفرة والنكد والسحب السوداء وتسلط حراس حديقة الحيوان التى صرنا إليها! ومرة لأننا منذورون لفقد ما اعتادت أن تمنحه لنا حقولنا منذ آلاف السنين بزعم تحقيق الاكتفاء الذاتى باستخدام البذور المعدلة وراثيا فيما وراء المحيط الحويط الغويط، والتى لا نعلم شيئا عن أسرار تعديلها فى معامل التكنولوجيا الحيوية غامضة النوايا والبعيدة عنا، والتى لانعرف ماذا حشروا فى جيناتها المعدلة والتى يتردد أنها تحتوى على جينات للتحلل الذاتى، حيث تثمر فى البداية ثم تقفر بعد ذلك، وهو المخطط الذى يتردد أن تنفيذه يتم فى شركة «مونسانتو» الأمريكية أكبر مشوه للبذور الأصيلة فى محاصيل العالم الفقير لصالح بذورها المعدَّلة وراثيا، والتى تفرضها على الدنيا حتى تجنى المليارات من تخريب حقول الجياع وتبوير مستقبلهم، كما أنها الشركة نفسها التى صنعت الكاشف البرتقالى الذى أحرق أخصب حقول الفيتناميين وشوه أجنتهم.
وهى المسئولة عن كوارث زراعة نوع من الذُرة المدمِّر للأرض فى الهند وغيرها، وقد شقت هذه الشركة طريقها إلى زراعاتنا بمساعدة أشخاص مريبين لتدمير بذور محاصيلنا التقليدية التى تم توليفها مع أرضنا ومناخنا وناسنا لآلاف السنين، ومحتها من الوجود أو تكاد لصالح بذور مستوردة ممن لانثق فى حبهم لنا ونثق فى عشقهم لعدونا، كما أنها بذور ملعوب فى أساسها الوراثى لعبا تمتلك مونسانتو حقوق ملكية شفرته الجينية، وبالتالى تتحكم فى سوقها، فهذه البذور المعدلة وراثيا ينبغى أن تُشترى من مونسانتو مع كل زرعة لانها تختفى بعد كل قلعة! مخطط شيطانى لتجريف سلالات زراعات مصرية أصيلة، وإحلال سلالات مريبة بمكانها يسهل التحكم فيها، وتجعلنا نحن أنفسنا مرهونين لمن يتحكم فى هذه السلالات الدخيلة، بل ربما يكون الهدف هو تجريف سلالتنا نحن كشعب محشور فى عنق زجاجة طال حشرنا فيها، شعب محشور مجبور ويوهم نفسه بأنه لايزال يتمطَّى فى البراح فيتنهد قائلا «آه، والحمد لله»!
«آه، والحمد لله»، قال مثلها جحا عندما ضاع حماره فظل يتمتم «حمارى ضاع والحمد لله» «حمارى ضاع والحمد لله» فقيل له يا جحا لماذا تحمد الله وقد ضاع حمارك؟ فأجاب: «أحمد الله لأننى لم أضِع مع الحمار»! وآه من ظلمات السنين التى تزحف على إشراقات الطفولة، والحمد لله أننى عشت مشهد خصوبة «مَنزَل الفرس» وأنا فى صفاء ونقاء الطفولة تلك، فرأيت الجنس سويا وجميلا وارتبط عندى بهدف الإنجاب وحميمية الحب بل بجمالية الحلال لأننى لم أره بعينى الطفل إلا زواجا مشروعا وله هدف حلو. وكان مستحيلا على من كان هذا هو أول انطباعاته عن الجنس أن يغدو متعصبا أو متطرفا أيدلوجيا من أى نوع، لأن حالات التعصب والتطرف والانغلاق والجنوح، معظمها وأيّا كانت لافتاتها، هى انحرافات نفسية تنمو كأورام خبيثة على جرثومة مركزية تنظر إلى هذا الفعل الكونى الخلاق كلعنة، لعنة مشتهاة، وصراع دفين! وهو صراع يعيشه كمدا وقهرا ملايين الشبان والشابات فى هذا العهد السعيد الذى لايجدون على أرضه ولا فى عرضه سبيلا ولا مأوى ولا زادا ولا ميعادا للنشوة الحلال، فأنا لم أر فى ذلك الصباح السعيد البعيد تلك النشوة إلا قرينة المشروعية والحلال.
لأننى فهمت أن ما حدث كان زواجا لإنجاب مهر جميل. وكل صغير جميل كما يقول الفرنساوية! وهو أمر يزيد فَرْستنا، فثمة عشرة ملايين شاب وفتاة فى مصر الآن تجاوزوا سن الخامسة والثلاثين دون زواج، دون همس ولا لمس ولا حلم مشروع حتى للحيوانات، فى أبوة وأمومة. فهل هناك مخطط للانقراض أوضح من هذا؟ وأفظع من التهجين القسرى لاستيلاد بغال أمهاتها أفراس وأباؤها حمير، ونغال آمهاتها أتن وأباؤها خيول، وحُميراشات من خلطة الحمير البرية بالحمير الداجنة، وكلها، كلها عقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
لقد دامت ذكرى توهج حفرة الطفولة تلك فى نفسى، بكل ما استتبع هذا التوهج من فرح رامح ونشوة متأملة، ثم كان تتابع الفصول وتغير الأماكن يهميان على هذه الحفرة، مرة بمطر غامر، وأخرى بشمس حارة، بل أخذتها معى فى ارتحال طويل إلى أماكن بعيدة فى هذا العالم، فعرفت الحفرة نصاعة تساقط الثلوج، ونقاء هواء الجبال، وتلاطم موج البحر، وخبايا الغابات البكر والبرارى.
وعلى مر السنين لم تعد الحفرة غير مرجِ زهور فرحانة وعشب نشوان، والأرض الخلاء التى كانت ملعب المخزنجى، ولم يعد لها وجود الآن بعد أن دُفن براحها الشاسع تحت أكداس من الأبنية السوقية والشوارع القذرة، صارت تلك الأرض فى أفق خيال ابن المخزنجى بستانا خلابا لأشجار توت وجميز وبلوط وشوح وصنوبر وكستناء وحور. ولم يكبر حمار الطفولة أبدا، فقد ظل فتيا يجتر نشوته المتأملة بين زهور بهيجة وعشب نضير أمتلأت به حفرة «منزَل الفرس». والفرس التى رمحت بفرح الخصب على تلك الأرض، تصاعد رمحها وتسامى، فصارت تحلق فوق هامات الشجر العالى، وبين السحب.
لكن، وبرغم جلاء وصفاء زلزلة الحفرة البعيدة تلك، فإن هناك حيرة أمسكت بتلابيب الولد الصغير الذى كنته، ولم أحسم إزالتها تماما حتى الآن، وهى حيرة يبلورها السؤال: لماذا ظل الحمار جامدا وصامتا بعد أن شارك بعرامة فى تفجير كل هذا الفرح والمرح والود وازدهار الشمس. كل هذا التحليق؟!!!
لم أُحسن الحكم عليه حينها، وإن كان حيرنى، لكننى مع ترجيع متكرر للمشهد الآن، وبعد إبحار طويل بعيدا عن كتب الفلسفة المملة، رأيت الحمار ساكنا فى نشوة ثملة، وكان يسدل جفنيه على عينيه الكبيرتين الشاردتين بتمهل، كمن يستعيد شيئا نادرا فى أعماقه. لعله كان يجتر ذكرى اللحظة العظمى، يستحلب فى ذاكرته على مهل، انفجار النشوة المزلزلة الخاطفة، ويستبقى تأثيرها فى نفسه! كان متأملا حسيا أبيقوريا عظيما، بل ذهب أبعد من أبقور فى فلسفة اللذة، أبيقور الفيلسوف اليونانى القديم الذى عاش فى الفترة من 341 حتى 270 قبل الميلاد، كان يتكلم عن الفلسفة كمتعة عقلية تسعد النفس، أما حمار طفولتى فقد تسامى باللذة المادية إلى عنان اللذة العقلية، فكان أبيقوريا متطورا وهو يسدل جفنيه على عينيه ويطرف على مهل شأن المتأملين الكبار. لكنه كان تأملا حزينا، حزنا مثقلا بشجن عميق، أحاول النظر فى عمقه بعد كل السنين، فأستهدى بطبيعة الشجن..
ولأن الشجن حزنٌ نبيل، أزعم باستقراء لحظة الحمار البعيدة تلك، حيث الهبوط بعد الذروة، والإحباط بعد الاندفاع، أزعم أن الحمار كان حزينا لانبثاق تلك النشوة فى غير موضعها وخارج إطار أصالته الحميرية، إضافة لعبثية نتائجها، فتألق هذه الفحولة وانفجار زهوتها كانا مفضوحين تحت عيون الأغيار المتسلطين، ونتائجهما كانت مسفوحة مقدما تحت أقدام التسلط، فحصاد هذا البذار الحار والرى الغامر لن يكون غير ابن مستعبَد لتسلط هؤلاء الأغيار، ومحكوم عليه مقدما بالعقم!
هكذا أتصور شجن الحمار يومها، والذى كان حزنه النبيل على الأرجح يتضاعف وهو يتصور نشوته فى واقع آخر، فى برارى الحرية والبراح، فالحُمُر البرِّية الحرة تعيش وياللعجب حياة أسرية سوية تكاد تكون إنسانية تماما، فالحمار البرى من أكثر الحيوانات غيرة على أتانه البرية، والأتان البرية من أكثر الحيوانات إخلاصا لحمارها البرى، وجحوشهما أولاد حلال مصفَّى، وينعمون بأبوة وأمومة عالية الإخلاص والتفانى، فعائلات الحمير الحرة فى البرية أرقى كثيرا من عائلات الملوك الزعماء القادة.. أسود كل الغابات!
فالأسد الذى نظنه أسدا تحوله لبؤته اللعوب إلى خرقة فى لحظة، لحظة أن يمربها أسد جديد شاب باحث عن أنثى وهى فى دورة الشبق، فتشعل اللبؤة نار العراك بين الأسدين، وغالبا ما ينتصر الأسد الوافد على الأسد الزوج لأن الوافد يكون أصبى وأقوى، عندئذ تطرد اللبؤة زوجها وتقترن بالأسد الجديد، ويكون أول ما يفعله زوج الأم هو أن يقتل أشبال اللبؤة من زوجها المطرود ليضمن سيادة نسله القادم، قتل قتل، قتل فعلى تحت سمع وبصر الأم اللبؤة دون اعتراض منها.
أما الزوج المطرود، فلا يجد من يلمه غير أسرة شقيقة له مع زوج ضرغام قد يكون زوجها الأول أو الثانى أو الثالث، ولا يسمح الأسد زوج الاخت للأسد الأخ الطريد الشريد بالالتحاق بأسرته إلا أن يكون فى ذيل أفرادها، يرعى أشباله، « بيبى سِتر» يعنى، هكذا هى الأسود! وهكذا هى منهم الزوجة والأم.. اللبوة، وتخفيف الهمزة هنا لايعنى استخدام كلمة عامية مبتذله وفيها قباحة، بل هو استخدام فصيح تماما، ولعله من أنجح نماذج تخفيف الهمزة صهرا للمعنى مع المبنى، فاللبوة لبوة بتخفيف الهمزة على الواو وبسلوكها الغريزى، لأنها مجبولة على التخفف الأخلاقى من الالتزام بالإخلاص للزوج متى ما لاحت لها أى إثارة بديلة، والأبشع هو دوسها لأمومتها تحت أقدام نزوتها، ثم إنها الأنثى الوحيدة بين الحيوانات التى بلا برقع للحياء، فهى التى تبادر الذكر بالتحرش طلبا للوصال ولو بالعافية. لبوة! وما هكذا تكون الأتان. ما هكذا تفعل الحمير البرِّية!
ما هكذا تفعل الحمير الحرة، هذه معلومات تيقنت منها وأنا أدافع عن صفاء رؤية الطفل الذى كنته لالتحام الحفرة التى كانت، لهذا ظلت عندى انبثاقا جماليا لمعنى النشوة فى قلب الغاية، تناظر نشوة الحلال والرضا والتوافق للزواج الناجح فى دنيا البشر، وهى النشوة الأعلى كما يقول علماء النفس وأصحاب التجارب والخبرات، لاتضاهى اكتمالها لحظات مسروقة، أو سوانح مُختلَسه، نشوة أكمل وأجمل لأنها مدثرة بالرحمة والود ونظافة الإخلاص وطمأنينة الصواب فى ظل الشرعية، نشوة أعظم لم يكف عن فصم عُراها طغاة ولصوص البشر من كل صنف وطيف، وهل أمام الحكم البشرى، مثلا مثلا، إلا أن يكون زواجا مشروعا بحرية الاختيار والتراضى فى جهة.. أو يكون بغاء أو اختلاسا أو اغتصابا فى الجهة الأخرى؟! جهتان لا ثالث لهما مهما تفيهق المتفيهقون! خاصة متفيهقى السلطة والسلطان وحب الرُمّان!
هل هناك مدارج فلسفية أرقى من تلك التى يمكن للمرء أن يصعد إليها، لا على ظهر حمار مُدجَّن، بل بصحبة حمار برى حر؟ لا أظن! ومع ذلك يظل للحمار، كحمار، بعض الحكمة، وبعض التحكيم، أو التطبيب، وهى خبرة لم يمنحها لى حمار الطفولة، بل حمار الرشاد!
ولحمار الرشاد حكاية........
ملخص ما نُشِر: بعد أن توافق الراوى وصديقه على ترشيح الحمار حيوانا وطنيا رمزيا للبلاد، وتعزيز هذا الترشيح بمواقف حميرية أصيلة فى تاريخ البلاد المعاصر، كما فى التاريخ الثقافى للأمة وللبشرية بعامة، يستعيد الراوى ذكرى موقف للحمار عاينه فى طفولته المبكرة وأحدث انقلابا فى مفاهيمه عن حقائق الحياة وأسرار حيويتها، ويبدأ فى توسيع الدلالات من هذا الموقف الذى يلقى الضوء على مناطق متوارية فى العتمات السيكو والسوسيو بوليتيكية للبشر، لكن سؤالا ظل يحيره، عن حزن دفين ركب حمار الموقف البعيد ذاك، وظل يمتطى الخاطر!
بقوة عاصفة صافية قفزت الفرس خارجة من الحفرة، وانطلقت تركض ركضا ساحرا، لم تكن تفر، بل تدور رامحة فى الأرض الشاسعة الخالية، تدور وتدور، «فرحانة»، هكذا علق الرجل الذى كان فى الحفرة، وهى كلمة بلورت لى معنى خارق الجمال فى هذا الفعل الذى بدا لى عيبا فاحشا من قبل، أيام انخراطى فى جوقة عيال نشيد الخروف والسطوح.
كانت الفرس تدور رامحة وتدور بينما الرجال يضحكون بانبساط، وقد شاع فى المكان الشتوى الترابى العارى، دفء ودود، وبدا لى أن الشمس صارت زاهرة أكثر.
أما الحمار، فبدا هامدا صامتا كأنه تجمد فى مكانه، كأنه لا يدرك قيمة الزلزال الذى فجره فى حفرة ملعب المخزنجى، وفى وعى الطفل الذى كنته، إذ عرفت السر عاريا كامل الانكشاف، بعد تراث من التغطيات العبيطة على الحقيقة، والتى تقول فى أحشم الحالات أنهم أخرجونا بشق بطون سمانات أرجل آبائنا التى تنتفخ بنا بعد زواج الرجال من النساء، أو شق بطون أمهاتنا التى كبرنا فيها بعد بوسة لأمهاتنا من آبائنا على الفم، وفى حالات الغضب علينا كان يقال لنا إنهم وجدونا رُضَّعا فى خرقة أو كومة قش على عتبات المساجد أو أمام أبواب الدور عند الفجر.
لقد أنهى ما أنجزه الحمار مع الفرس زمن كل هذه الترهات وعرفت منه سر أسرار حيوية العالم وتواصُل الأحياء فيه. وهو سر رأيته أمرا يدعو الأفراس إلى فرح يوشك أن يجعلها تطير. نشوة محلقة الجمال تدعو إلى المحبة، واحترام الحياة. فقد استقر فى ذهنى ما رأيته وأنا طفل مع بهجة أن تحمل الفرس وتلد مهرا. مُهر صغير جميل زين لى خيالى امتلاكه ومصاحبته.
ومن ثم كان الفعل كله فى دائرة البراءة شفافا بكل ما فيه من إثارة وحميمية وعرامة وتفجُّر حسىِّ. وبرغم علانيته التى تبدو للكبار فاضحة، بدا الأمر لى يومها سريا وكونيا وسحريا ونقيا نقاء بذرة تنشق عن نبتة تغدو شجرة تزهر ومن زهورها ينبثق الثمر.. أطيب وأطهر الثمر!
لم يكن لى فى هذا العمر والحمد لله أن أعرف أن هذه كانت عملية تهجين أو تعشير بسطوة بشرية للحصول على دابة قوية شبه بكماء للتسخير، وأن الهجين الطالع لن يكون مُهرا وليدا ولا جحشا يرضع. بل سيكون بغلا شديد البأس مقطوع النسل، ليس حرونا كأبيه الحمار ولا عصبيا كأمه الفرس، ومُذعن لاستبداد من دبروا ذلك التهجين الذى لا يحدث أبدا فى البرية إلا تحت وطأة شدة يصل فيها النوع إلى حافة الانقراض أو التهديد بالزوال.
وتكون الهجائن الناتجة عقيما وغير قابلة لتوريث خلطتها الجينية، فتظل نادرة إلى درجة التلاشى كما فى الهجين الناتج من تزاوج الحمار الوحشى المخطط مع حمارة أهلية بلا خطوط، فينتج عن تزاوجهما بغل وحشى Zonkey أو «حُميراش»، قليل الخطوط وعقيم ومرشح للانقراض.
وهى حالة مادية من التجريف الوراثى بالتخليط المتعسف للجينات تؤذن بسرعة هلاك وانقراض الكائن المُخلَّط فى ظروف قسرية ومُخترِقة لتوافقات وتآلفات المنظومات الحية المستقرة عبر آلاف ومئات وربما ملايين السنين، حيث تُطوِّر الكائنات الحية نوعا من المناعة الذاتية يحول دون خلط جيناتها بجينات مختلفة ولو كانت من العائلة نفسها كما بين الخيول والحمير فى العائلة الخيلية، والنمور والأسود فى العائلة السنورية، بل تمتد هذه المناعة ضد منح أو أخذ جينات من أقارب الدرجة الأولى مما يمثل خطورة على جينات النوع نفسه أو يسبب إضعافا لها، فالكائنات الحرة فى الطبيعة البرية لا يحدث بينها سفاح محارم، ولا تهجين متعسف، فقط عندما يصل النوع إلى ما يسميه أهل علوم الوراثة «عنق الزجاجة»، يقع المحظور بالفطرة، وتَفْسَد دورة الحياة، كأن تُحشر الأنواع المتباينة فى حيز ضيق معا تحت وطأة الشدة، أو يصل عدد النوع الواحد فى بيئة ما إلى حد الندرة، فيحدث ما لا يحدث أبدا فى الحالة السوية.
ويقع ما يسمى فى علم العشائر والوراثة «الاستيلاد الداخلى» أو سفاح المحارم فى دنيا البشر، ونتائج كل هذا «العك» الوراثى القهرى لا تكون حميدة أبدا، بل خروج أنسال ضعيفة التوالد فى أفضل الحالات، وعقيم فى معظمها، وما التهجين القسرى إلا محاكاة، لا لسوية الطبيعة، بل للانحراف فيها، والنتيجة عقم، عقم يصل بالنسل إلى التشوه وحافة الانقراض، فى الحيوان كما فى الإنسان كما فى النبات، فهل نتعظ من خلط الحمير الأهلية مع الحمير الوحشية؟ والحمير مع الأفراس؟ والخيول مع الأتن؟ هل نتعظ من أمثولة الحمير؟
هل نتعظ مرتين؟ مرة لأننا محشورون فى عنق زجاجة من التزاحم وعدم الوفرة والنكد والسحب السوداء وتسلط حراس حديقة الحيوان التى صرنا إليها! ومرة لأننا منذورون لفقد ما اعتادت أن تمنحه لنا حقولنا منذ آلاف السنين بزعم تحقيق الاكتفاء الذاتى باستخدام البذور المعدلة وراثيا فيما وراء المحيط الحويط الغويط، والتى لا نعلم شيئا عن أسرار تعديلها فى معامل التكنولوجيا الحيوية غامضة النوايا والبعيدة عنا، والتى لانعرف ماذا حشروا فى جيناتها المعدلة والتى يتردد أنها تحتوى على جينات للتحلل الذاتى، حيث تثمر فى البداية ثم تقفر بعد ذلك، وهو المخطط الذى يتردد أن تنفيذه يتم فى شركة «مونسانتو» الأمريكية أكبر مشوه للبذور الأصيلة فى محاصيل العالم الفقير لصالح بذورها المعدَّلة وراثيا، والتى تفرضها على الدنيا حتى تجنى المليارات من تخريب حقول الجياع وتبوير مستقبلهم، كما أنها الشركة نفسها التى صنعت الكاشف البرتقالى الذى أحرق أخصب حقول الفيتناميين وشوه أجنتهم.
وهى المسئولة عن كوارث زراعة نوع من الذُرة المدمِّر للأرض فى الهند وغيرها، وقد شقت هذه الشركة طريقها إلى زراعاتنا بمساعدة أشخاص مريبين لتدمير بذور محاصيلنا التقليدية التى تم توليفها مع أرضنا ومناخنا وناسنا لآلاف السنين، ومحتها من الوجود أو تكاد لصالح بذور مستوردة ممن لانثق فى حبهم لنا ونثق فى عشقهم لعدونا، كما أنها بذور ملعوب فى أساسها الوراثى لعبا تمتلك مونسانتو حقوق ملكية شفرته الجينية، وبالتالى تتحكم فى سوقها، فهذه البذور المعدلة وراثيا ينبغى أن تُشترى من مونسانتو مع كل زرعة لانها تختفى بعد كل قلعة! مخطط شيطانى لتجريف سلالات زراعات مصرية أصيلة، وإحلال سلالات مريبة بمكانها يسهل التحكم فيها، وتجعلنا نحن أنفسنا مرهونين لمن يتحكم فى هذه السلالات الدخيلة، بل ربما يكون الهدف هو تجريف سلالتنا نحن كشعب محشور فى عنق زجاجة طال حشرنا فيها، شعب محشور مجبور ويوهم نفسه بأنه لايزال يتمطَّى فى البراح فيتنهد قائلا «آه، والحمد لله»!
«آه، والحمد لله»، قال مثلها جحا عندما ضاع حماره فظل يتمتم «حمارى ضاع والحمد لله» «حمارى ضاع والحمد لله» فقيل له يا جحا لماذا تحمد الله وقد ضاع حمارك؟ فأجاب: «أحمد الله لأننى لم أضِع مع الحمار»! وآه من ظلمات السنين التى تزحف على إشراقات الطفولة، والحمد لله أننى عشت مشهد خصوبة «مَنزَل الفرس» وأنا فى صفاء ونقاء الطفولة تلك، فرأيت الجنس سويا وجميلا وارتبط عندى بهدف الإنجاب وحميمية الحب بل بجمالية الحلال لأننى لم أره بعينى الطفل إلا زواجا مشروعا وله هدف حلو. وكان مستحيلا على من كان هذا هو أول انطباعاته عن الجنس أن يغدو متعصبا أو متطرفا أيدلوجيا من أى نوع، لأن حالات التعصب والتطرف والانغلاق والجنوح، معظمها وأيّا كانت لافتاتها، هى انحرافات نفسية تنمو كأورام خبيثة على جرثومة مركزية تنظر إلى هذا الفعل الكونى الخلاق كلعنة، لعنة مشتهاة، وصراع دفين! وهو صراع يعيشه كمدا وقهرا ملايين الشبان والشابات فى هذا العهد السعيد الذى لايجدون على أرضه ولا فى عرضه سبيلا ولا مأوى ولا زادا ولا ميعادا للنشوة الحلال، فأنا لم أر فى ذلك الصباح السعيد البعيد تلك النشوة إلا قرينة المشروعية والحلال.
لأننى فهمت أن ما حدث كان زواجا لإنجاب مهر جميل. وكل صغير جميل كما يقول الفرنساوية! وهو أمر يزيد فَرْستنا، فثمة عشرة ملايين شاب وفتاة فى مصر الآن تجاوزوا سن الخامسة والثلاثين دون زواج، دون همس ولا لمس ولا حلم مشروع حتى للحيوانات، فى أبوة وأمومة. فهل هناك مخطط للانقراض أوضح من هذا؟ وأفظع من التهجين القسرى لاستيلاد بغال أمهاتها أفراس وأباؤها حمير، ونغال آمهاتها أتن وأباؤها خيول، وحُميراشات من خلطة الحمير البرية بالحمير الداجنة، وكلها، كلها عقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
لقد دامت ذكرى توهج حفرة الطفولة تلك فى نفسى، بكل ما استتبع هذا التوهج من فرح رامح ونشوة متأملة، ثم كان تتابع الفصول وتغير الأماكن يهميان على هذه الحفرة، مرة بمطر غامر، وأخرى بشمس حارة، بل أخذتها معى فى ارتحال طويل إلى أماكن بعيدة فى هذا العالم، فعرفت الحفرة نصاعة تساقط الثلوج، ونقاء هواء الجبال، وتلاطم موج البحر، وخبايا الغابات البكر والبرارى.
وعلى مر السنين لم تعد الحفرة غير مرجِ زهور فرحانة وعشب نشوان، والأرض الخلاء التى كانت ملعب المخزنجى، ولم يعد لها وجود الآن بعد أن دُفن براحها الشاسع تحت أكداس من الأبنية السوقية والشوارع القذرة، صارت تلك الأرض فى أفق خيال ابن المخزنجى بستانا خلابا لأشجار توت وجميز وبلوط وشوح وصنوبر وكستناء وحور. ولم يكبر حمار الطفولة أبدا، فقد ظل فتيا يجتر نشوته المتأملة بين زهور بهيجة وعشب نضير أمتلأت به حفرة «منزَل الفرس». والفرس التى رمحت بفرح الخصب على تلك الأرض، تصاعد رمحها وتسامى، فصارت تحلق فوق هامات الشجر العالى، وبين السحب.
لكن، وبرغم جلاء وصفاء زلزلة الحفرة البعيدة تلك، فإن هناك حيرة أمسكت بتلابيب الولد الصغير الذى كنته، ولم أحسم إزالتها تماما حتى الآن، وهى حيرة يبلورها السؤال: لماذا ظل الحمار جامدا وصامتا بعد أن شارك بعرامة فى تفجير كل هذا الفرح والمرح والود وازدهار الشمس. كل هذا التحليق؟!!!
لم أُحسن الحكم عليه حينها، وإن كان حيرنى، لكننى مع ترجيع متكرر للمشهد الآن، وبعد إبحار طويل بعيدا عن كتب الفلسفة المملة، رأيت الحمار ساكنا فى نشوة ثملة، وكان يسدل جفنيه على عينيه الكبيرتين الشاردتين بتمهل، كمن يستعيد شيئا نادرا فى أعماقه. لعله كان يجتر ذكرى اللحظة العظمى، يستحلب فى ذاكرته على مهل، انفجار النشوة المزلزلة الخاطفة، ويستبقى تأثيرها فى نفسه! كان متأملا حسيا أبيقوريا عظيما، بل ذهب أبعد من أبقور فى فلسفة اللذة، أبيقور الفيلسوف اليونانى القديم الذى عاش فى الفترة من 341 حتى 270 قبل الميلاد، كان يتكلم عن الفلسفة كمتعة عقلية تسعد النفس، أما حمار طفولتى فقد تسامى باللذة المادية إلى عنان اللذة العقلية، فكان أبيقوريا متطورا وهو يسدل جفنيه على عينيه ويطرف على مهل شأن المتأملين الكبار. لكنه كان تأملا حزينا، حزنا مثقلا بشجن عميق، أحاول النظر فى عمقه بعد كل السنين، فأستهدى بطبيعة الشجن..
ولأن الشجن حزنٌ نبيل، أزعم باستقراء لحظة الحمار البعيدة تلك، حيث الهبوط بعد الذروة، والإحباط بعد الاندفاع، أزعم أن الحمار كان حزينا لانبثاق تلك النشوة فى غير موضعها وخارج إطار أصالته الحميرية، إضافة لعبثية نتائجها، فتألق هذه الفحولة وانفجار زهوتها كانا مفضوحين تحت عيون الأغيار المتسلطين، ونتائجهما كانت مسفوحة مقدما تحت أقدام التسلط، فحصاد هذا البذار الحار والرى الغامر لن يكون غير ابن مستعبَد لتسلط هؤلاء الأغيار، ومحكوم عليه مقدما بالعقم!
هكذا أتصور شجن الحمار يومها، والذى كان حزنه النبيل على الأرجح يتضاعف وهو يتصور نشوته فى واقع آخر، فى برارى الحرية والبراح، فالحُمُر البرِّية الحرة تعيش وياللعجب حياة أسرية سوية تكاد تكون إنسانية تماما، فالحمار البرى من أكثر الحيوانات غيرة على أتانه البرية، والأتان البرية من أكثر الحيوانات إخلاصا لحمارها البرى، وجحوشهما أولاد حلال مصفَّى، وينعمون بأبوة وأمومة عالية الإخلاص والتفانى، فعائلات الحمير الحرة فى البرية أرقى كثيرا من عائلات الملوك الزعماء القادة.. أسود كل الغابات!
فالأسد الذى نظنه أسدا تحوله لبؤته اللعوب إلى خرقة فى لحظة، لحظة أن يمربها أسد جديد شاب باحث عن أنثى وهى فى دورة الشبق، فتشعل اللبؤة نار العراك بين الأسدين، وغالبا ما ينتصر الأسد الوافد على الأسد الزوج لأن الوافد يكون أصبى وأقوى، عندئذ تطرد اللبؤة زوجها وتقترن بالأسد الجديد، ويكون أول ما يفعله زوج الأم هو أن يقتل أشبال اللبؤة من زوجها المطرود ليضمن سيادة نسله القادم، قتل قتل، قتل فعلى تحت سمع وبصر الأم اللبؤة دون اعتراض منها.
أما الزوج المطرود، فلا يجد من يلمه غير أسرة شقيقة له مع زوج ضرغام قد يكون زوجها الأول أو الثانى أو الثالث، ولا يسمح الأسد زوج الاخت للأسد الأخ الطريد الشريد بالالتحاق بأسرته إلا أن يكون فى ذيل أفرادها، يرعى أشباله، « بيبى سِتر» يعنى، هكذا هى الأسود! وهكذا هى منهم الزوجة والأم.. اللبوة، وتخفيف الهمزة هنا لايعنى استخدام كلمة عامية مبتذله وفيها قباحة، بل هو استخدام فصيح تماما، ولعله من أنجح نماذج تخفيف الهمزة صهرا للمعنى مع المبنى، فاللبوة لبوة بتخفيف الهمزة على الواو وبسلوكها الغريزى، لأنها مجبولة على التخفف الأخلاقى من الالتزام بالإخلاص للزوج متى ما لاحت لها أى إثارة بديلة، والأبشع هو دوسها لأمومتها تحت أقدام نزوتها، ثم إنها الأنثى الوحيدة بين الحيوانات التى بلا برقع للحياء، فهى التى تبادر الذكر بالتحرش طلبا للوصال ولو بالعافية. لبوة! وما هكذا تكون الأتان. ما هكذا تفعل الحمير البرِّية!
ما هكذا تفعل الحمير الحرة، هذه معلومات تيقنت منها وأنا أدافع عن صفاء رؤية الطفل الذى كنته لالتحام الحفرة التى كانت، لهذا ظلت عندى انبثاقا جماليا لمعنى النشوة فى قلب الغاية، تناظر نشوة الحلال والرضا والتوافق للزواج الناجح فى دنيا البشر، وهى النشوة الأعلى كما يقول علماء النفس وأصحاب التجارب والخبرات، لاتضاهى اكتمالها لحظات مسروقة، أو سوانح مُختلَسه، نشوة أكمل وأجمل لأنها مدثرة بالرحمة والود ونظافة الإخلاص وطمأنينة الصواب فى ظل الشرعية، نشوة أعظم لم يكف عن فصم عُراها طغاة ولصوص البشر من كل صنف وطيف، وهل أمام الحكم البشرى، مثلا مثلا، إلا أن يكون زواجا مشروعا بحرية الاختيار والتراضى فى جهة.. أو يكون بغاء أو اختلاسا أو اغتصابا فى الجهة الأخرى؟! جهتان لا ثالث لهما مهما تفيهق المتفيهقون! خاصة متفيهقى السلطة والسلطان وحب الرُمّان!
هل هناك مدارج فلسفية أرقى من تلك التى يمكن للمرء أن يصعد إليها، لا على ظهر حمار مُدجَّن، بل بصحبة حمار برى حر؟ لا أظن! ومع ذلك يظل للحمار، كحمار، بعض الحكمة، وبعض التحكيم، أو التطبيب، وهى خبرة لم يمنحها لى حمار الطفولة، بل حمار الرشاد!
ولحمار الرشاد حكاية........
بقلم:محمد المخزنجي- الشروق
No comments:
Post a Comment