تحدثنا فى الأسابيع الماضية عن المجهود الذى بذله النظام فى سبيل تفتيت الدولة المصرية إلى قبائل متناحرة لإلهائهم جميعاً عن الوحدة للدفاع عن الوطن ومستقبله والعمل على رفعته وتقدمه، وقد نجح النظام نجاحاً باهراً فى إلهاء المصريين عن الكوارث التى تحيق بهم وبمستقبلهم سواء فى الأمور الداخلية أو المخاطر الجمة الخارجية التى تحيط بنا من كل جانب، ودولتنا السنية نائمة فى العسل ولا تلقى بالاً إلا لشىء واحد فقط هو الاستمرار فى السلطة بأى ثمن.
أتحدث اليوم عن قبيلة مناصرة للنظام لأنها تتمتع بحمايته، وحين أتحدث عن اللصوص فلا أعنى بالطبع الحرامى التقليدى الذى كان يسرق الغسيل أو الفراخ فى الأحياء الشعبية أو نشال الأتوبيس أو عضو العصابة التى تقتحم بيتاً لسرقته أو تسرق سيارة أو دراجة. كل هؤلاء من صنف الحرامية تعاقبهم الحكومة وتحبسهم كلما أمكن ذلك.
أنا اليوم أتكلم عن نوع آخر من الحرامية وهو لا يمد يده فى جيبك لينشلك ولا يدخل بيتك من الشباك ليسرق شيئاً. إنه حرامى شيك يلبس بذلة وكرافتة وعنده سيارة فارهة وسائق وبودى جاردز. هذا الحرامى يتمتع بعلاقات وثيقة بالسلطة فى مصر، قد تكون هذه العلاقة مصاهرة أو قرابة أو صداقة، وهذا الحرامى الشيك الذى ليس له سوابق ولا أحد يعتبره لصاً من الشعب أو الدولة أو حتى القانون- يتفق مع أحد رجال السلطة النافذين لتسهيل مهمة ذات طابع اقتصادى له، قد تكون بيع أراض ضخمة تملكها الدولة بثمن بخس يرتفع مائة أو ألف ضعف بعد سنوات قليلة وربما فى نفس الأسبوع،
وقد يتقاسم المسؤول والحرامى، الذى أصبح اسمه الآن رجل أعمال، هذه الملايين التى لم تتم سرقتها من أحد وإنما تمت سرقتها من الشعب كله، وفى أحيان أخرى يقرر المسؤول صديق رجل الأعمال أن يبيع له شركة تملكها الدولة بثمن بخس وبتسهيلات عظيمة فيتحول فجأة من مواطن يسعى وراء رزقه إلى بليونير كبير وحبذا لو ساعده المسؤول بمنع استيراد هذه السلعة لفترات طويلة مع عرقلة قيام المنافسين بتصنيع نفس السلعة وهو ما يسمى فى لغة الاقتصاد فى العالم المتقدم «الاحتكار» وهو الذى تسن له قوانين لمنعه لأنه يضر بالدولة والمواطن والمنافسة، ويشجع على الفساد.
ولكن المسؤول العظيم يساعد رجل الأعمال فى برلمان الأمة، الذى ينجح أعضاؤه غالباً بالتزوير، على عدم إصدار قوانين منع الاحتكار وصرف النظر عنها. وهناك المئات بل الآلاف من الحالات التى لم يكن المسؤولون فيها يملكون غير راتبهم وتاريخ مشرف من العمل العام والأمانة ولكن مناخ الفساد المستشرى يدفع بالأولاد وربما بالأحفاد والأصهار إلى العمل فى بيزنس مبنى على سلطة الأب أو الجد فى الدولة وتنتعش الأسرة وتتحول من طبقة متوسطة مكافحه شريفة إلى طبقة شديدة الثراء، وكل ذلك لا يتم بشفافية أو وضوح، وإنما كله تحت الترابيزة.
هذه الطريقة فى إفساد رجال الأعمال فى مصر أدت إلى صعوبة يلاقيها رجل الأعمال الحقيقى الشريف المنتج والصانع الذى يجد نفسه فى العراء بدون حماية من أب أو عم أو قريب ويقع تحت رحمة النظام الذى يطلب منه جباية، والذى يهدده بالشرطة والأمن حتى يدخل الحظيرة ويدفع المعلوم. وهكذا حاربت الدولة رجال الأعمال الشرفاء ووضعت العراقيل أمامهم لصالح الفاسدين.
بعض رجال الأعمال وجدوا حلاً توافقياً اعتبروه رائعاً وهو لماذا لا نتزوج الحكومة أسوة بمسرحية «ريا وسكينة» حينما قررت شادية وسهير البابلى أن تتزوج إحداهن عسكرى قسم اللبان بالإسكندرية لتضمنا الأمن والأمان وتتما مهمتهما فى السرقة والقتل تحت عيون وبموافقة ضمنية من الدولة، وهو ما حدث فى المسرحية التى تدور أحداثها فى أوائل القرن العشرين،
ولكن ذلك يحدث الآن فى المحروسة فى القرن الواحد والعشرين، فإما أن يكون الزواج حقيقياً ورسمياً بمصاهرة بين رجل الأعمال ورجل السلطة فينتعش الاثنان أو دخول رجل الأعمال الحزب الحاكم وتولى الوزارة أو عضوية البرلمان أو رئاسة لجنة، وهنا يكون الفساد منه فيه، وهذا الأمر لا يفرق كثيراً عن زواج سكينة بعسكرى قسم اللبان بالإسكندرية كلاهما غطت السلطة على جرائمهما وفى حالة ريا وسكينة استمر الأمر عدة سنوات حتى انكشف الأمر ولم تحاول الداخلية، التى كانت نزيهة حينذاك، التغطية على العسكرى المشارك فى الجريمة حوكم وأدين،
ولكن فى القرن الواحد والعشرين هناك الآلاف من الجرائم المعروفة والتى تم الإبلاغ عنها بالوثائق من جهات رقابية ولم يحدث شىء وحين يقوم اثنان من المخبرين بضرب الشاب خالد سعيد حتى الموت تصدر الداخلية بياناً غير صادق لتبرئة المخبرين واضطرت الداخلية تحت ضغط الرأى العام الداخلى والخارجى إلى سحب بيانها وإصدار بيان جديد جزء منه يمثل الحقيقة ولكنه أيضاً غير صادق.
حين تتحدث الدولة عن ارتفاع معدل الناتج القومى ولا يشعر الشعب بذلك فهذه الزيادة قد شفطتها مجموعة من رجال الأعمال الذين ناسبوا الحكومة بطريقة أو أخرى وأضروا برجال الأعمال الحقيقيين، وفى النهاية لم يصل إلى الشعب شىء. لا بد أن يحدث شىء لأن الأمر قد فاض عن أكثر الحدود تخيلاً.
لا بد من وقفة من الشعب كله حتى تعود له حقوقه وتحاسب الحرامية الكبار الذين قضوا على الأخضر واليابس.
قم يا مصرى.. مصر دايماً بتناديك
د. محمد أبوالغار - Almasry Alyoum
No comments:
Post a Comment