Thursday, June 03, 2010

المصرى اليوم تنشر مذكرات وشهادات وصوراً من حياة «الضاحك الباكى»(الحلقة الثالثة) «الريحانى»: المال لم يسعدنى.. والحب لم يترك لى سوى التعاسة

لا تعرف حينما تشرع فى الكتابة عنه من أين تبدأ. من حياته التى عاشها مخلصاً للفن وعاشقاً للنساء؟ أم من تأثيره فى تكوين المسرح الحديث فى مصر بكل ما تعنيه الكلمة؟ أم من تصريف القدر الذى جعل من سنوات عمره قصة أشبه بالحكايات التى لا تنتهى مفاجآتها حتى بعد رحيله بسنوات وكأنه أسطورة لا تنتهى؟ رغم أن لحظة النهاية فى حياته قد سُجلت فى دفتر التاريخ فى الثامن من يونيو عام ١٩٤٩ بإحدى حجرات المستشفى اليونانى بالقاهرة بسبب حمى تيفودية، كما يقول سجل الوفيات لذلك العام.

حديثنا عن نجيب الريحانى عملاق الكوميديا المصرية الذى أراد أن يحترف الميلودراما فأبى الفن، وساقه فى طريق الكوميديا التى صار عنواناً لها حيث لا تُذكر إلا واسمه مقترناً بها، ولا تأتى سيرته إلا وتحدثوا عن تأثيره فيها.

وحديث «المصرى اليوم» عن نجيب الريحانى الآن يقترن بثلاثة أسباب، أولها اقتراب موعد ذكرى رحيله الـ٦١ التى توافق ٨ يونيو المقبل، وثانيها رعايتنا مع مكتبة الإسكندرية لمعرض فى الفترة من ٢-٥ يونيو تعرض فيه أفلامه وصوره وتقام فيه الندوات الفنية التى تناقش دوره، وثالثها - وهو الأكثر جدلاً - لقاؤنا بابنته جينا التى مثل ظهورها فى افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى منذ نحو ثلاثة أعوام مفاجأة ذكّرت البعض بحياة هذا الرجل، ودفعت آخرين لتكذيبها ونفى قصة أن يكون لنجيب الريحانى أبناء من الأساس. ولكن من يتحدث مع جينا-٧٣ عاماً- يدرك أن لديها الكثير عنه وعنها.

«كشكش بيه» رأيته خيالاً كالشبح يرتدى الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامه كبيرة فقلت لنفسى «هذا عماد رواياتى»

لا تعلم وأنت تتابع مسيرة ذلك الرجل أكان من المحظوظين، أم من الذين تطاردهم أقدارهم لتختبر صلابتهم ومدى تمسكهم بما يؤمنون؟ فإذا كان نجيب الريحانى قد شعر بالفراغ بعد رحيل الفنان محمد عبدالقدوس عن نجع حمادى، فإنه سرعان ما لحق به، وتلك المرة عبر خطاب مسجل من شركة السكر تخبره فيه باستغنائها عن خدماته، لتكون العودة إلى القاهرة مرة أخرى بمبلغ ٧٠ جنيهاً هى قيمة مكافآته النهائية.

وهو ما يقول عنه فى مذكراته: «وصلت للقاهرة وكانت ثروتى هذه سبب فى أن يلتف حولى رهط من الزملاء الأقدمين آل يعنى الواد وارث! وهات يا بعزقه وهات يا صرف إلى أن صحوت فجأة وإذا ما معى بعد الأسبوعين الأولين مبلغ ٢٦ جنيه فقط لا غير، وبعدين إذا صرفتهم أعمل إيه وأسوى إيه؟ وأنا يا مولاى كما خلقتنى ولا فيه شغلة ولا مشغلة.

وبناء عليه أصدرت فيما بينى وبين نفسى قرارا صممت على تنفيذه وهو أن ألايمها وألم إيدى شوية بالتى هى أحسن. وبعد إصدار هذا القرار بساعة وعشرين دقيقة تماماً قصدت إلى حيث كانت تعمل فرقة الأستاذ جورج أبيض، وجلست أشاهد مسرحية «أوديب الملك»، وبينما أنا أذرف الدمع السخين وفد سليم أبيض شقيق جورج ومدير الفرقة، وفاتحنى بحقيقة مرة مفادها أن إيراد الفرقة مخسع حبتين والممثلين لازم يقبضوا الليلة، والإدارة مش لاقية تقبضهم.

وعشان كده قصدتك يا نجيب فى مبلغ ٢٥ جنيه ندفع منهم قسط الممثلين وتاخدهم بعد يومين تلاته بالعدد».

حاول نجيب التملص من تلك الورطة، ولكن إلحاح سليم أبيض كان أقوى منه ولذا اشترط الريحانى على سليم، إعادة المبلغ بعد يومين بالتمام ولكن حنث آل الأبيض بالوعد، ولم يكن لديهم أمام مطالبة الريحانى بالمبلغ سوى تكرار كلمة «الصبر طيب يا أخى هو إحنا حناكلهم عليك؟» فى ذلك الوقت كون جورج أبيض وسلامة حجازى فرقة مسرحية ضمت عدداً من الممثلين من بينهم روزاليوسف وعُرض على الريحانى الانضمام للفرقة عله يفوز بماله، وهو ما وافق عليه، وبدأت الفرقة بتمثيل رواية صلاح الدين، ومنح الريحانى كما يقول دور ملك النمسا.

وقتها كانت الحرب العالمية الأولى تستعر، وكانت الصحف تنشر صور ملوك الدول المتحاربة ومن بينها إمبراطور النمسا «فرنسوا جوزيف» فقرر الريحانى أن يظهر على المسرح فى صورته ما دام يؤدى دور ملك النمسا.

وبقليل من الماكياج وحيلة نجح فى مبتغاه وهو الذى جعل الجمهور بل وجورج أبيض نفسه ينفجر فى الضحك بمجرد رؤية الريحانى على المسرح، موقف يحكى عنه قائلا: «دخل جورج ثائراً وهو يصرخ مردداً كلمة قلب الأسد المأثورة «ويل لملك النمسا من قلب الأسد»، ولكن ويل إيه وبتاع إيه ما خلاص جورج ما بقاش جورج والمسرح بقى عيضه والحابل اختلط بالنابل، كل هذا وأنا أقف فى مكانى لا أبتسم ولا أخالف طبيعة الموقف... آل يعنى الفن واخد حده قوى مع ملك النمسا»

ورغم براعة الريحانى فى دوره ونجاحه فى اقتناص الضحك من الجمهور، إلا أن فرقة جورج أبيض قررت رفته ولم تكتف بذلك بل كتبت مسببات القرار بأنه لن يفلح فى التمثيل أبداً ولن يكون ممثلاً فى يوم من الأيام حتى لو كان الدور ثانوياً، لتُسد كل أبواب العمل بعد تلك الوثيقة فى وجه الريحانى فماذا بعد شهادة جورج أبيض؟ ولكن نجح نجيب فى إقناع عدد من ممثلى فرقة أبيض فى تركها وتكوين فرقة خاصة بهم، وكان من بين هؤلاء عزيز عيد وروزاليوسف وستيفان روستى وحسن فايق.

وكان العائق أمامهم هو رأس المال ولكنهم دبروه من خلال صاحب مقهى «متروبول» اليونانى الذى قرر منحهم ١٠ جنيهات ليبدءوا بها فرقتهم التى سموها «فرقة الكوميدى العربى» واختاروا مسرح «برنتانيا» ليقدموا عليه أعمالهم التى استهلوها بعرض «خللى بالك من إيميلى» وجسد فيها الريحانى دور «برجيه والد إيميلى» وهو الدور الذى اعتذر عنه فى البداية إلا أن عزيز عيد أصر على تجسيد الريحانى له بحجة عدم وجود ممثلين يكفون لأداء أدوار الرواية.

يقول الريحانى فى مذكراته: «اقتحمت المسرح وتشجعت وأديت الدور ولشد ما كانت دهشتى حين سمعت أرجاء الصالة تضج بالضحك ويتجاوب التصفيق جوانبها. ولست أغالى حين أعترف من غير تواضع أن دورى فاز بنصيب الأسد.

وأذكر أننى التقيت بعد العرض بالخواجة صاحب المقهى وكان يظننى أحد مديرى الفرقة فقط، فسألته عن العرض فأجابنى: «يا سلام دى خاجة تمام خلوة.. الراجل دى برجيه ابن كلب، مين خنزير أجوز برجيه دى مسيو نجيب؟ فأجبته بأنه واحد ممثل والسلام بكرة تعرفه. وعندما عرف الخواجة من زملائى فيما بعد أننى هذا الخنزير ضاعف من تهنئته لى واعتذر عن إعجابه المقرون بالسباب».

بعد ذلك جاء اتفاق فرقة الكوميدى العربى مع إدارة مسرح «الشانزليزيه» لعرض أعمالهم عليه، وقدموا من خلالها عدداً من المسرحيات من بينها «عندك حاجة تبلغ عنها» و«ضربة مقرعة» و«الابن الخارق للطبيعة».

إلا أن الإيرادات ظلت قليلة، فتفتق ذهن الفرقة عن فكرة علت بدخلهم، وكانت الاتفاق مع منيرة المهدية على أن تغنى فصلاً من إحدى روايات سلامة حجازى وسط فصول مسرحيات الريحانى، على أن يكون الإيراد مناصفة بين الفرقة ومنيرة، ونجحت الفكرة وارتفع دخل الفرقة بشكل فاق كل التوقعات، بشكل جعل منيرة المهدية تشعر أنها سبب كل ذلك النجاح فتصر على فض الشراكة مع فرقة الكوميدى العربى، لتنصرف عنهم الإيرادات.

يقول الريحانى: «فما كادت تسلت يدها من الفرقة حتى انسحب على أقدامها الخير الذى عمنا ردحاً من الزمن وعدنا إلى غلب الزمان. وبعد مدة قضيناها فى تلطيش من اللى قلبك يحبه جاء من يقترح علينا اقتراحاً جديداً، هو أن نعقد اتفاقاً مع فرقة إخوان عكاشة للعمل فى مسرحهم مع بقاء الفرقتين مستقلتين، بمعنى أن كلا منهما تمثل ليلة والإيراد المتجمع يقسم مناصفة بين الفرقتين».

عُقد الاتفاق وانتقل الريحانى بفرقته لمسرح الشانزليزيه فى شارع الباب البحرى لحديقة الأزبكية، ولكن لم تأت الرياح بما تشتهى السفن، فلم يزد ذلك الاندماج الفرقة إلا خبالاً على حد قول الريحانى فى مذكراته، لتعود فرقة العربى الكوميدى مرة أخرى إلى تياترو برنتانيا. إلا أن الانفصال طال نجيب نفسه حينما قرر ترك الفرقة فى شهر مايو من عام ١٩١٦، بعدما رفض عزيز عيد أن يضيف اسمه فى الأفيشات الخاصة بالفرقة.

مرة أخرى عاد الريحانى للشارع بأحلام كبيرة وفلس أكبر، حتى كان يوم رأى فيه وهو جالس على مقهى برنتانيا أحد البكوات ينزل من سيارته فى سترة فاخرة وعصا ذهبية المقبض وخاتم يلعب شعاعه بالأنظار، كما يقول، ولم يكن هذا البيك سوى صديقه ستيفان روستى الذى يقول عنه الريحانى: «كان يشتهى مثلى السيجارة ماركة الحملى ولا حتى ماركة الكوز».

كان السر كما حكى ستيفان لنجيب فى «خيال الظل» وهو الدور الذى كان يؤديه من خلف ستارة شفافة فى مسرح «أبيه دى روز» مقابل ٦٠ قرشاً فى الليلة، وهو مبلغ طائل لم يكن نجيب يتحصل عليه بسهولة حتى فى الشهر. ولذا طلب نجيب من صديقه أن يساعده فى الالتحاق بالعمل معه. وهو ما حدث ليبدأ نجيب الريحانى فى المشاركة فى اسكتشات خيال الظل فى دور خادم بربرى مقابل ٤٠ قرشاً فى الليلة.

وبالتدريج بدأ الريحانى فى تمثيل روايات باللغة الفرنسية ذات فصل واحد لم تلق الكثير من النجاح. حتى كان موعده مع «كشكش بيه» الذى جاءه وحياً من خيال فى منتصف ليلة من ليالى عام ١٩١٦.

يقول الريحانى: فى فجر هذه الليلة ولست أدرى أكنت فى تلك اللحظة نائماً أم مستيقظاً، رأيت بعينى خيالاً كالشبح يرتدى الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة فقلت فى نفسى ماذا لو جئنا بشخصية كهذه وجعلناها عماد رواياتنا؟ كانت الساعة الخامسة صباحاً فقمت من فراشى وأيقظت أخى الأصغر وكان لى خير عون ورحت أملى عليه هيكل الموضوع الذى صممت على إخراجه، وكان عبارة عن أن عمدة من الريف وفد إلى مصر يحمل الكثير من المال فالتف حوله فيها فريق من الحسان أضعن ماله وتركنه على الحديدة فعاد إلى قريته يعض بنان الندم.

وذهبت للخواجة «روزاتى» صاحب ملهى «الأبيه دى روز» أرجوه تأجيل إغلاق الملهى حتى أضع رواية قد تكون الداء الشافى لداء الكساد. فقبل الرجل، فكان أن وضعت أولى روايات كشكش بيه وكانت عبارة عن اسكتش فكاهى يستغرق ٢٠ دقيقة موضوعه كما ذكرت، وجعلنا اسم الرواية «تعالى لى يا بطة».

يوم الافتتاح كان الريحانى يشعر أنه يقدم للجمهور أسخف ما يمكن تقديمه، ولكنه قرر الدخول لخشبة المسرح بقلب من حديد مهما تكن النتائج، ولم يشعر بما كان من رد فعل الجمهور على ما قدم. وأسرع بعد إسدال الستار فى الهرب من المسرح ولكن أوقفته وكيلة الملهى وهنأته على روعة الأداء وهو ما ظنه سخرية منه، ولكنها أخذته من يده وذهبت به للخواجة روزاتى الذى هنأه بحرارة.

يقول نجيب الريحانى: «استقبلنى الخواجة متهللاً باشا وصافحنى قائلاً: أنا ماكنتش أظن أبداً إنك ممثل عظيم بالشكل ده، فقلت له: العفو يا خواجة بس إيدك على جيبك بقى واتحفنى بالريالين الفينو الله يطمنك. ووضع الرجل يده فى جيبه وأخرج ٦٠ قرشاً ناولنى إياها وهو يقول إنت ماهيتك من النهارده كده. وضعت المبلغ فى جيبى وقابلت ستيفان روستى خصيصاً لأقول له ماحدش أحسن من حد والروس ساوت بعضها يا قفا».

دارت عجلة مسرحيات كشكش بيه وصار يقدم مسرحية كل أسبوع وزاد فى شخصياتها بالتدريج، وبدأ الزيادة بـ«زعرب» شيخ الخفر التابع للعمدة أينما حل وقدم دوره الممثل عبداللطيف المصرى. نجح نجيب الريحانى وزاد الإقبال عليه واتفق معه صاحب المسرح على أن يكون له فوق الـ٦٠ قرشاً نسبة من الدخل نظير التأليف والإخراج فعرف معنى الترف. كان رسم الدخول لعموم الناس ٥٠ مليماً ولكن مع الإقبال الشديد على مسرحيات كشكش بيه أصبح الدخول على درجتين الأولى بـ١٥ قرشاً والثانية بـ ١٠ قروش.

ومع الوقت استعان الريحانى بالمؤلف أمين صدقى ليكتب ويؤلف له الروايات، وارتفع راتب نجيب الريحانى إلى ٢٧ جنيهاً فى الشهر، كان رقما قياسيا لم تعهده المسارح من قبل ولم يصل له ممثل فى ذلك الحين.

كان نجاح الريحانى حديث الزملاء القدامى الذين أصدروا من قبل حكمهم عليه بعدم الصلاحية لامتهان التمثيل. يقول الريحانى: «كان مرتبى موضع استغرابهم ولم أقل حسدهم لأنهم بدأوا فى ذلك الوقت يكتشفون مواهبى الرائعة وفنى البديع وتمثيلى المدهش بل ويتنبأون لى بمستقبل زاهر وعهد باهر.

عينى يا عينى على التنبؤات التى كانت على طرفى نقيض مع ما سبق أن شرفونى به من تنبؤات...برضه!»

كان نجاح الريحانى مغرياً لغيره من المسارح أن يسيروا على نفس منواله، وكان فى مقدمتهم ملهى «كازينودى بارى» الذى استعان بعزيز عيد ولكنه لم يحقق أى نجاح يُذكر فاستعان بعلى الكسار فبدأ فى احتلال مكانة مهمة فى عماد الدين. فى ذات الوقت واصل الريحانى تقديم مسرحية جديدة كل أسبوع ومن بينها«هز يا وز» و«خليك تقيل».

ومع نجاح تلك الأعمال تم مد مدة عرض الرواية أسبوعين. ولكن نجح الحاسدون فى إفساد العلاقة بين الخواجة روزاتى وبين الريحانى الذى لم يقبل أسلوب روزاتى فى التعامل معه، فقرر التعاقد مع الخواجة «ديموكنجس» للعمل فى مسرح «الرينيسانس» بشارع فؤاد الأول، براتب ١٢٠ جنيهاً شهرياً.

شعر الخواجة روزاتى بخسارته فرفع دعوى أمام القضاء المختلط ادعى فيها أن اسم كشكش بيه ملكية لمسرحه وطالب بعدم حقى فى استعمالها وطالب بتعويض قدره ١٠٠٠ جنيه مصرى ولكن المحكمة حكمت برفض الدعوى وألزمته بدفع مبلغ ١٠٠ جنيه لى كانت مقررة فى العقد بينى وبينه، وسجل الحكم فى حيثياته اسم كشكش بك بصفتى أول مبتكر له.

ويقرر الريحانى العودة بمسرحية حاول بها إغاظة الخواجة روزاتى حملت عنوان «إبقى قابلنى» وبنفس فرقته القديمة واستمر عرضها شهراً كاملاً. تلاها بعرض مسرحية «كشكش بك فى باريس» ثم «وصية كشكش».

لعلنا نتوقف هنا لنستمع لقول المؤلف أمين بكير فى كتابه «كشكش بك» عن وصف الريحانى فى مسرحه، يقول: «عاش الريحانى ساخراً يؤمن بإمكانية حل مشكلات الإنسان بالوفاق بين الإنسان وذاته وبين مجتمعه، وإمكان إصلاح الخطأ وإحلال التوافق محل الشقاق فى شتى مناحى الحياة، وعندما شارك فى ثورة ١٩١٩ بدأ حسه الوطنى يلمح حقيقة عمق المأساة التى كان يعيشها أبناء جيله فى ظل الاحتلال والاستعمار وشتى ألوان التعسف والطغيان.»

فى مايو من عام ١٩١٧ اختار الخواجة «ديمو كنجس» مقهى فى شارع عماد الدين ليقيم عليه مسرحاً بعد انتهاء عقد إيجار الرينيسانس. فتعطل عمل الفرقة ٤ أشهر وأطلق الريحانى على المسرح الجديد اسم «الإيجيبسيانة» وأصر على مساعدة الخواجة فى بناء المسرح بما ادخره للزمن ليعود مرة أخرى على الحديدة ومن فات قديمه تاه. ولكن ما إن بدأت العروض حتى عاد النجاح والدخل المريح مرة ثانية لكل أعضاء الفرقة.

لم يكن عام ١٩١٧ فقط عام العمل والنجاح فى حياة الريحانى، ولكنه كان على موعد مع الحب الذى عرفه مع «لوسى دى فرناى» والدة جينا. يقول الريحانى: «كانت لوسى دى فرناى صديقة لى وكانت عوناً فى الشدة وساعداً يشد أزرى وعزمى ولئن ذكرت فى حياتى شيئاً طيبا فأنا أذكر أيام زمالتها وعهد صداقتها».

يعود الريحانى مرة أخرى فى مذكراته إلى الحديث عن فرقته التى انضم لها الفنان حسين رياض فى العام ١٩١٧، وكيف اضطر لترك الفرقة اعتراضاً على رفض الخواجة وقف العمل بالمسرح عدة أيام حداداً لوفاة الشيخ سلامة حجازى فى نهاية العام ١٩١٧، فعهد الخواجة بدور البطولة فى المسرحية لحسين رياض، إلا أن النجاح الذى جاء مع الريحانى رحل معه،

ولذا عاد الخواجة كنجس للتفاوض معه مرة أخرى فاستغل الفرصة وعرض عليه شروطه التى يقول عنها: «لم تكن تعجبنى خطة كنجس فى إدارة الفرقة ولذلك عرضت عليه اقتراحاً يتضمن كف يده عن الإدارة وأن يتقاضى ٣٠% من الإيراد يومياً فقبل، ومنذ تلك اللحظة بدأ تاريخى فى إدارة الفرقة التمثيلية».

بدأ الريحانى فرقته بعرض مسرحية «حماتك تحبك» تأليف أمين صدقى، تلاها برواية «حلق حوش»، إلا أنه لم يكن يحقق ربحاً كما لم يكن يحقق خسارة، فى المقابل كان مسرح الكسار المواجه لمسرحه يحقق أعلى الإيرادات.

فقرر وقف العرض لمدة ليلة وذهب لمشاهدة عروض الكسار ليقف على أسباب تفوقه. يقول عنها: «أدهشنى أن كل ما هناك كان عبارة عن استعراض يغلب عليه العنصر الأفرنجى وتتخلله مواقف فكاهية لا تحوى موضوعاً ولا معانى خاصة ولكن كانت فخامة المناظر وعظمتها فى تابلوهات الرقص. ما دام الأمر كذلك فلماذا أتعب مخى فى الإتيان بالموضوعات والبحث عن الروايات ذات المغزى؟».

وهكذا عرف مسرح الريحانى طريق الاستعراض ولكن غلب فيه العنصر المصرى على الأفرنجى. وكانت البداية فى رواية «حمار وحلاوة» التى وضع فيها تحويشة العمر عاملاً بمبدأ «يا صابت يا اتنين عور»، ولكنها صابت وبلغ إيراد الليلة الأولى ٢٣٥ جنيهاً. قفزت فى نهاية الشهر الأول لعرض الرواية إلى ٤٠٠ جنيه.

وزاد من سعادته زيارة الشيخ بحر معلم اللغة العربية الأول فى حياته له فى المسرح ليهنئه على النجاح. يقول الريحانى: «أقسم أيها السادة أن تهنئة الشيخ كانت عندى أكبر من مبلغ الـ٤٠٠ جنيه التى عمرت بها خزانتى فى ذلك الحين».

لم تكتمل فرحة الريحانى بالنجاح الذى حققته «حمار وحلاوة»، فقد جاءه زميله المؤلف أمين صدقى يطلب مشاركته فى الإيراد مناصفة بدلة من الحصول على راتب كان يبلغ ٦٠ جنيهاً شهرياً، وهو ما عارضه الريحانى دون ممانعة فى زيادة الراتب، ليقرر صدقى ترك الفرقة، فبحث الريحانى عن بديل حتى عرض عليه أحد أصدقائه القدامى ويُدعى «مسيو جورج» أن يؤلف له، وقدم له قطعتى زجل نالت استحسان الريحانى فاتفق معه على العمل معه،

ولكن ما إن خرج الرجل من عنده حتى دخل عليه صديق آخر وأخبر الريحانى بأن الزجل لم يكن من تأليف جورج ولكنه من تأليف شاب يُدعى بديع خيرى، اتفق معه الأستاذ جورج على بيع إنتاجه الأدبى لأنه غير معروف مقابل مشاركته عائد بيعه. فطلب نجيب رؤية بديع خيرى وهو ما كان، حيث تناقشا، واكتشف الريحانى أن الفتى بديع جد مهذب وجد مبدع، لتبدأ مرحلة جديدة فى فن نجيب الريحانى انطلق فيها مع بديع فى آفاق الفن.

يقف الريحانى عند هذه النقطة من مذكراته ليطرح سؤالا عن حقيقة السعادة، مر بخاطره فى تلك الفترة التى عادت فيها خزانة الفرقة للامتلاء بالإيرادات، ثم يجيب عن التساؤل بذكرى محاضرة كان قد حضرها أثناء عمله بنجع حمادى لفيلسوف فرنسى كان قد تنازل عن ثروته للأعمال الخيرية دون أن يبقى منها شيئاً، يتذكر الريحانى كلام الفيلسوف عن السعادة التى قال إنها مجرد لفظ بلا معنى، مؤكداً أن المال لم يسعده، والحب لم يترك له سوى الحسرة والتعاسة، فآمن بأن السعادة لن نجدها إلا فى العالم الآخر.

يقول نجيب الريحانى: «أقول إننى حين وجدت فى يدى ٨٠٠ جنيه هى أرباح الفرقة فى شهرين، ترددت فى أذنى كلمات هذا الفيلسوف العُجر فضحكت ملء شدقى وقلت فى نفسى أين هذا العاجز الغبى كى أقوده إلى عالم السعادة التى ضل سبيلها؟».

نشوى الحوفى

Almasry Alyoum

No comments: