Tuesday, September 08, 2009

كيف تدفع مصر ثمن الحكم الفردي؟

‮»‬انتهي شهر أغسطس دون أن يتذكر أحد في بلادنا مناسبة مرور مائة وستين سنة علي وفاة محمد علي باشا الكبير في الثاني من أغسطس عام‮ ‬1849‮«.‬ هكذا قال الباحث والكاتب الشاب نشأت الديهي‮: ‬في افتتاح ندوة أقيمت بصحيفة‮ »‬الجمهورية‮« ‬ليلة يوم الأربعاء الماضي‮.‬ كان موضوع الندوة هو كتاب‮ »‬محمد علي باشا‮: ‬بدايات قاسية ومجد عظيم‮« ‬من تأليف الباحث الشاب الذي اعتبر هذا الكتاب جزءاً‮ ‬من مشروع كبير‮ »‬لاستنهاض الهمم‮« ‬والتحرر من اليأس والإحباط وإعادة ثقة المصريين في أنفسهم وقدراتهم‮.‬ ولما كان التاريخ هو ذلك الكائن الحي الذي يجب أن نبعثه من مرقده،‮ ‬فإن علينا أن نفتش في صفحاته عن الدروس الثمينة التي نتعلمها،‮ ‬كما يقول المؤلف‮
.‬ قبل أن أتحدث في تلك الندوة كنت أتساءل‮:‬ كيف نطالب المصريين بتعميق شعورهم بالانتماء‮.. ‬وهم لا يعرفون تاريخهم؟ وكيف يتحول مبدأ المواطنة من حبر علي ورق إلي واقع فعلي دون أن ندرك وحدة التاريخ المصري،‮ ‬وأننا جميعاً‮ ‬ورثة الحضارات الفرعونية والإغريقية والقبطية والإسلامية؟ والمشكلة أن لدينا شبابا هذه الأيام،‮ ‬الذين يعرفون أسماء لاعبي الكرة وأسماء من ينسبون أنفسهم إلي عالم الغناء،‮ ‬ولا يعرفون أسماء كبار شخصيات التاريخ المصري ورواد التقدم والنهضة في بلادهم‮.‬ يرصد كتاب‮ »‬بدايات قاسية ومجد عظيم‮« ‬الحدث الكبير الذي وقع في يوم‮ ‬13‮ ‬مايو‮ ‬1805‮ ‬عندما أعلنت مصر حقها في تقرير مصيرها في اجتماع العلماء،‮ ‬بزعامة عمر مكرم،‮ ‬لتعيين محمد علي والياً‮ ‬علي مصر بدلاً‮ ‬من خورشيد باشا‮. ‬وينقل المؤلف عن المؤرخ الشهير الجبرتي نص اتفاق تاريخي‮:‬ ‮»‬قام السيد عمر مكرم بتقليد محمد علي خلعة الولاية‮..
‬وتم الأمر بعد المعاهدة والمعاقدة ــ أي بعد أن تعاهد المجتمعون وكتبوا وثيقة تنص علي أن يلتزم بالعدل وإقامة الأحكام والشرائع،‮ ‬والإقلاع عن المظالم،‮ ‬وألا يفعل أمراً‮ ‬إلا بمشورته ــ مشورة عمر مكرم ــ ومشورة العلماء،‮ ‬وأنه متي خالف الشروط‮.. ‬عزلوه‮«.‬ وعندما حاول خورشيد باشا أن يتحدي هذا القرار‮.. ‬قائلاً‮: »‬لقد ولاني السلطان‮.. ‬فلن يعزلني الفلاحون‮«.. ‬قام عمر مكرم بتحريض الناس علي الاجتماع والاستعداد،‮ ‬وركب هو،‮ ‬والمشايخ،‮ ‬إلي بيت محمد علي،‮ ‬ومعهم العديد من العامة،‮ ‬والكل بالأسلحة والعصي،‮ ‬ولازموا السهر بالليل في الشوارع والحارات،‮ ‬ومعهم المشاعل،‮ ‬وهم يطوفون بالجهات والنواحي‮. ‬وشن رجال خورشيد هجوماً‮ ‬مفاجئاً‮ ‬علي متاريس الثوار،‮ ‬لكنهم استطاعا أن يروا جنود خورشيد علي أعقابهم‮.
‬ وفي الخامس والعشرين من مايو،‮ ‬عقد اجتماع بين عمر مكرم وأحد مستشاري خورشيد الذي قال‮:‬ ‮»‬كيف تعزلون من ولاّه السلطان عليكم،‮ ‬وقد قال الله تعالي‮: »‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‮« ‬ورد عليه عمر مكرم قائلاً‮: »‬أولو الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل‮. ‬وهذا رجل ظالم‮. ‬وقد جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلاد يعزلون الولاة‮. ‬وهذا شيء مألوف من زمان،‮ ‬وحتي الخليفة والسلطان إذا سار في الناس بالجور‮.. ‬فإنهم يعزلونه ويخلعونه‮«.‬ وعلي القارئ أن يتأمل عبارة‮ »‬وقد جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلاد يعزلون الولاة‮«.‬
إنها شهادة إنصاف للمصريين‮.‬ ‮<<<‬ ومن هنا يبرز كتاب‮ »‬بدايات قاسية ومجد عظيم‮« ‬كيف أن محمد علي لم يراهن علي القوة العسكرية لكي يتولي الحكم،‮ ‬ولم يراهن علي الشريعة السلطانية،‮ ‬وإنما راهن علي الإرادة الشعبية التي تحركها الزعامات والقيادات الطبيعية الحقيقية‮.‬ وكان محمد علي مقتنعاً‮ ‬بأن القوة وحدها لا تجدي مع هذه الأمة،‮ ‬ولابد من الوصول إلي قلبها من خلال مشاركة الناس والتفاعل معهم والتودد إليهم بكل الطرق‮.‬
وكما يحدث في كل الأزمنة والعهود‮.. ‬انقلب محمد علي إلي حاكم مطلق ينفرد بالقرار بعد أن بدأ يشعر بأن الزعامات الشعبية بقيادة عمر مكرم أصبحت تمثل عقبة أمام انفراده بالسلطة‮.
‬كان الناس يستغيثون لإعفائهم من الضرائب الباهظة التي أفسدت حياتهم‮. ‬وطالب عمر مكرم برفع المظالم‮. ‬وكان مصيره النفي خارج القاهرة‮.‬
واستفاد محمد علي من الفرقة التي دبت في صفوف العلماء وسيطرة المطامع الدنيوية علي نفوسهم‮.‬ ويشهد الجبرتي تلك المنافسات والمناورات والمحاسدات والتعصبات بيمن العلماء الذين افتتنوا بالدنيا‮.
‬ورغم أن محمد علي أعفي أطيان هؤلاء العلماء من الضرائب الجديدة،‮ ‬إلا أنهم كانوا ــ مع ذلك ــ يأخذون الضرائب من الفلاحين لأنفسهم‮. ‬ووصل الأمر إلي حد أن بعض العلماء تصرفوا بدافع من الحقد الشخصي علي عمر مكرم،‮ ‬ووقفوا مع محمد علي ضد الزعيم الشعبي‮.. »‬وانفتح بينهم باب النفاق‮«.. ‬وأصبح كل واحد منهم يحرص علي نفسه‮ »‬وعلي زيادة شهرته ويظهر خلاف ما في ضميره‮«. ‬وتلك هي الأجواء التي تشكل ظروفاً‮ ‬مواتية لكل من يريد أن يكون ديكتاتوراً‮.‬
هنا نلاحظ أن التاريخ لا يقدم الذرائع التي تبرر لمحمد علي ضربه وتصفيته للإرادة الشعبية رغم إنجازاته الكبري والنهضة التي حققها في كل المجالات‮.‬ في نوفمبر عام‮ ‬1890‮ ‬كتب نوبار باشا في مذكراته يقول‮: »‬من شاهد مصر منذ أربعين سنة لا يسعه إلا أن يشعر بالذهول من التحول الذي حدث فيها‮.
‬من الذي يرجع إليه الفضل في هذا التحول؟ وكيف حدث؟ إن كل ما يتعلق بمصر الحديثة يجب أن ىُنسب إلي محمد علي،‮ ‬فهو الرجل الذي قام بهذا التحول‮.. ‬وفتح أبوابها علي مصراعيها أمام التقدم المادي الأوروبي،‮ ‬ومن خلال هذه الأبواب‮.. ‬مرت التطورات والأفكار التي أكملت العمل الذي بدأه‮«.‬
ورغم ذلك يتحدث نوبار عن طغيان محمد علي وتحذيره لأعضاء ديوان الشوري بأنه‮ »‬محمد علي‮« ‬طالما في مصر،‮ ‬فإن عليهم أن يخافوا علي أنفسهم‮! ‬وكتب نوبار يقول إن القتل هو الطريقة التي يتخلص بها الوالي‮ (‬محمد علي‮) ‬من أي شخص يخشاه أو يري مصلحة في اختفائه عن الأنظار‮. ‬ويتناول بالتفصيل كيف كان إبراهيم باشا يخشي أن ينقلب والده عليه ويقتله‮!‬ ‮<<<‬ محمد علي الذي اعتبر أن الأمن القومي المصري يبدأ من جبال طوروس والحدود السورية،‮ ‬والذي قرر أن استقلال مصر التام لا يتحقق إلا إذا وضعت مصر يدها علي نهر النيل من منبعه إلي مصبه،‮ ‬والذي سيطرت جيوشه علي قبرص وشمال اليونان وكل السودان والجزيرة العربية وخان يونس وغزة ويافا وحيفا وصيدا وصور وبيروت وطرابلس وعكا والقدس ودمشق وحمص وحلب واللاذقية وأنطاكية والإسكندرونة وقونية وكوتاهية وأزمير‮.. ‬وكان يستطيع أن يدخل الأستانة‮ (‬اسطنبول‮) ‬ويطيح بالخليفة العثماني‮..
‬لم يغفر له المؤرخون نزعته التسلطية ولم يتغاض التاريخ عن جموحه الدموي‮.‬ ورغم النهضة الشاملة في الصناعة والتعليم،‮ ‬والقفزات الكبري في القدرات العسكرية،‮ ‬والانتقال بمصر من العصور الوسطي إلي الدولة المدنية الحديثة التي تعتمد علي العلم الحديث،‮ ‬فإن هذا البناء الشامخ ارتبط بشخصه وتعرض للانهيار بعد اختفائه‮.‬
يقول نوبار‮: »‬بموت محمد علي‮.. ‬اختفت العبقرية التي كانت توجه مصر،‮ ‬فقد كانت مصر هي محمد علي وكان كل شيء في مصر يحمل بصماته‮.. ‬حتي التربة والنيل‮«.‬ ومحمد علي نفسه‮.. ‬كان يتوقع ما سيحدث بعد رحيله‮. ‬قال ذات مرة،‮ ‬كما لو كان يحدث نفسه‮:‬ ‮»‬إنني عجوز،‮ ‬وإبراهيم أكثر شيخوخة مني ومريض ومحطم،‮ ‬وبعده عباس،‮ ‬وهو متراخ ولا مبال،‮ ‬ثم ماذا بعد ذلك؟
مجرد أطفال‮! ‬كيف يمكن المحافظة علي مصر؟
إنها ستكون فريسة لقوة ما‮. ‬ماذا سيكون مصيرها؟ وقبل حوالي نصف قرن من احتلال بريطانيا لمصر،‮ ‬قال محمد علي لصديقه المؤرخ بوركهارت‮: »‬إن السمك الكبير يبتلع السمك الصغير،‮ ‬وأنا أعرف أن إنجلترا تطمع في مصر‮«.‬
كل دولة،‮ ‬مهما بلغت من العظمة،‮ ‬تتعرض للاضمحلال والسقوط،‮ ‬وإذا كانت تعتمد علي حاكم فرد لا يعترف بزعامات شعبية أو مؤسسات،‮ ‬وتتبدد معظم إنجازاته كما لو كانت قصوراً‮ ‬مشيدة فوق الرمال وربما يتطلب الأمر كفاح الأبطال وثورات شعبية أخري للمحافظة علي بقايا هذه الإنجازات‮.‬ وشكراً‮ ‬لكتاب‮ »‬نشأت الديهي‮« ‬لأنه يوحي بالكثير من الأفكار التي يمكن أن تنفع من يريد أن يتعلم من تجارب التاريخ ويتطلع إلي‮ »‬استنهاض الهمم‮«‬،‮ ‬ويرجو خلق جيل جديد يملك الشعور بالانتماء ويعيد قراءة تاريخ بلاده بروح جديدة‮.‬
بقلم: نبيل زكي
عن الوفد

No comments: