لايزال كثير من المصريين يتذكرون جيرانهم اليونانيين، حين جاءوا إلى مصر كتجار أو عمال أو حرفيين، وامتلك بعضهم محال حلويات وبقالة، وتصليح سيارات، وفنادق صغيرة («البنسيون الذى هو عبارة عن طابق أو اثنين فى عمارة»).
وكان بعضهم على باب الله عملوا كعمال فى تلك المحال أو سائقى سيارات أجرة، وتفاعلوا مع المصريين مثل أهلها، واختلفوا عن باقى الأوروبيين المستعمرين فى مشاعرهم الطيبة تجاه المصريين، وغياب أى روح استعلائية تجاه أهل البلد، حتى أصبحوا جزءاً من تاريخها، لا يستطيع أى مصرى، خاصة إذا كان من سكان الإسكندرية، أن ينسى كثيراً من الذكريات الطيبة عن هذا الشعب الجار.
كما أن الذاكرة الوطنية المصرية لم تنس للمرشدين اليونانيين موقفهم المشرف حين أمم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر قناة السويس، وسحبت كل الدول الأوروبية موظفيها من الهيئة، ما عدا اليونان التى أبقت عليهم لمساعدة زملائهم المصريين فى إدارة القناة.
والمؤكد أن أحوال مصر الاقتصادية فى ذلك الوقت، كانت أفضل من اليونان، بل إن معظم اليونانيين بقوا فى مصر بعد تأميمات الستينيات، لأنهم لم يكونوا من طبقة كبار الملاك، إلى أن شهدت البلاد منذ ثلاثة عقود بيع الأبناء والأحفاد لممتلكات آبائهم وأجدادهم، وعودتهم إلى اليونان بعد أن أصبحت مصر طاردة لأبنائها وليس فقط ما تبقى من الجالية اليونانية، كما أن الأوضاع فى البلد الجار تحسنت بصورة هائلة، وأصبحت منذ الثمانينيات حلما لكثير من المصريين الذين شدوا الرحال إلى هناك، بحثاً عن لقمة عيش وحياة كريمة.
وقد شاهد المصريون الفارق الهائل بين ما جرى فى اليونان تجاه جريمة، قام بها أحد أفراد الشرطة بحق صبى عمره ١٥ عاما، وبين الجرائم المتكررة التى يقوم بها أفراد الشرطة فى مصر دون رقيب أو حسيب، وبدا واضحا أن الفارق بين الحالتين يرجع أساسا إلى طبيعة النظام فى كلا البلدين.
فاليونان اختارت الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وعضوية الاتحاد الأوروبى منذ عام ١٩٨١، رغم أنها سبق أن احتلت وعرفت ديكتاتوريات عسكرية، فى حين اختارت مصر عن جدارة أن تقف منذ ذلك التاريخ فى مكانها، بما يعنى عمليا أنها تراجعت بصورة هائلة فى كل المجالات.
ولعل جريمة شرطة اليونان تحمل ظروفاً مخففة مقارنة بما يجرى فى مصر، ومع ذلك رأينا كل هذه ردود الأفعال، فقد قام صبى فى الخامسة عشرة من عمره وشبان آخرون، برشق سيارة للشرطة بالحجارة، فأطلق الشرطى الرصاص على الصبى، وأرداه قتيلاً فى مشهد شديد القسوة والعنف على مجتمع ديمقراطى، مهمة الشرطة فيه الحفاظ على أرواح الناس لا قتلها، وبصرف النظر عن كون الصبى هو الذى بدأ بقذف سيارة الشرطة بالحجارة، فالمؤكد أن رد الفعل يجب ألا يكون هو إطلاق الرصاص.
وجاء رد الفعل من قبل المجتمع اليونانى عنيفاً وقاسياً، فقد شهدت البلاد طوال هذا الأسبوع احتجاجات مختلفة، وأعمال شغب، بدأت فى العاصمة أثينا فى ساعة متأخرة من مساء السبت الماضى وبعد إعلان خبر وفاة الصبى بساعات قليلة، وألقى شبان قنابل حارقة على الشرطة، وأحرقوا إطارات سيارات وحطموا واجهات متاجر، وسرعان ما امتدت أعمال الشغب إلى سالونيكا، ثانى أكبر مدن اليونان وبلدات أخرى فى شمالها.
وامتدت الاحتجاجات أيضاً إلى مدن فى جزيرتى كريت وكورفور السياحيتين، مما دفع وزير الداخلية «بروكوبيس بافوبولوس» إلى عرض استقالته، إلا أن رئيس الوزراء كوستاس كرامنليس رفض على الطريقة العربية، وربما إخلاصاً لعلاقته التاريخية بمصر استقالة وزير داخليته حتى الآن.
وإذا كان من المؤكد أن أعمال الشغب والتخريب مرفوضة كليا، رغم أنها تحدث فى أعرق الدول الديمقراطية، إلا أن الحدث الأبرز والأكثر إيجابية داخل المجتمع اليونانى هو دعوة الأساتذة والطلاب واتحادات العمال إلى إضراب عام، والتظاهر فى قلب العاصمة اليونانية، وهى الدعوة التى طرحها أيضاً تحالف الأحزاب الاشتراكية المعارضة، من أجل الاحتجاج السلمى والسياسى على أخطاء الشرطة.
وهنا يكمن الفارق بين مجتمع الجار الحى، ومجتمعنا المصرى المتبلد، فالمؤكد أن الجرائم التى ارتكبها أفراد من جهاز الشرطة فى مصر فى الفترة الأخيرة مرعبة فى قسوتها، والمؤسف أن الحساب (إن جاء) يأتى بالقطعة، لأن المشكلة هى أكبر من المحاسبة الفردية (إن حدثت)، إنما فى نظام عام، بات يفرز كل يوم مئات من مرتكبى الجرائم، لا من مواجهيها.
والمؤكد أن سلسلة الجرائم التى راح ضحيتها مواطنون أبرياء، وكان آخرها ما جرى فى حى المهندسين مع أحد لاعبى منتخب اليد السابقين، حين أطلق ضابط لا يتجاوز عمره ٢٣ عاماً النار على الشاب فأرداه قتيلاً فى الحال، وبعيداً عن كل التبريرات البلهاء عن أن الشاب كان عنيفاً وأنه جاء برفقة أصدقائه، فإننا أمام «خناقة شارع» وليس مطاردة مجرمين، ورغم ذلك، كان إطلاق النار وقتل روح إنسان بكل تلك البساطة والسلاسة المرعبة.
والمدهش أن هذه الحوادث تكررت مرات طويلة، وضحاياها مواطنون عاديون، وليسوا خارجين عن القانون، بما يعنى أن كراهية الناس وغرور السلطة المطلقة العابثة، باتا من مسوغات عمل الأجهزة الأمنية فى مصر، فمن حادثة عماد الكبير الذى انتهك عرضه فى أحد أقسام الشرطة إلى عشرات الحوادث التى جرت، وكان ضحاياها مواطنين عاديين لا إرهابيين أو مجرمين.. صار هذا النمط من الجرائم أمرا عادياً ومتكرراً.
والمؤسف أيضاً أن جهاز الشرطة ممثلا فى وزير داخليته، والحكومة ممثلة فى رئيس وزارئها، لم يقوما، ولو لمرة واحدة على سبيل السهو، بتقديم اعتذار لضحايا تلك الجرائم، كما يجرى فى كل بلاد العالم المحترمة بما فيها اليونان، وغابت حتى الكلمة الطيبة والاعتذار عن الخطأ وترك العدالة تحاسب المجرمين دون ضغوط وتدخلات عن ثقافة من يحكموننا، بل تعرض أهالى الضحايا لتهديدات وضغوط مخجلة حتى لا ينشروا مآسيهم فى الصحف ووسائل الإعلام.
إن مشكلة مصر ليست فقط أنها دولة غير ديمقراطية، واليونان دولة ديمقراطية، إنما أن مصر بها نظام لا يعتبر المواطن المصرى رقماً فى أى معادلة، نظام معدوم الكفاءة، ترك لكل صاحب سلطة ونفوذ صلاحيات استثنائية هائلة، فجهاز الأمن فى مصر هو جهاز له سلطات هائلة، وتميز رجاله عن باقى المواطنين المصريين بالزى والسلاح والنفوذ «الميرى»، وفى ظل نظام سياسى تغيب عنه أدنى درجات المحاسبة، ويترك الناس تقتل بعضاً فى الشوارع حتى يرتاح من وجع الدماغ..
تصبح هذه الجرائم ليست مجرد انحرافات أفراد، إنما هى انحرافات ذوى السلطة والنفوذ من رجال الأعمال القتلة، إلى بلطجية الشوارع وحراس الراقصات، وكبار المسؤولين وضباط الأمن، فالمعضلة ليست فى جريمة ضابط هنا أو هناك، إنما فى دولة تعمدت تغييب القانون، فاستبيحت من كل صاحب حظوة أو نفوذ، وتحولت إلى غابة يأكل فيها القوى الضعيف.
وطالما أن «الدبورة والسيفين» تعطى لمن يرتديها قوة عابرة للقوانين.. وحتى للأعراف والتقاليد، فعلينا أن نتوقع كل يوم مزيداً من الضحايا الأبرياء، خاصة إذا كان الشعب المصرى قد أثبت وداعة وطيبة نادرتين فى التعامل مع قتلته
بقلم د. عمرو الشوبكى ١١/ ١٢/ ٢٠٠٨
المصرى اليوم
No comments:
Post a Comment