"إن الأشياء التي نتحدث عنها كثيرًا، عادة ما تكون معرفتنا بها أقل" (ديدرو)
في نهاية العام الماضي، دعاني الصديق الأستاذ مجدي خليل للمشاركة في المؤتمر الإفتتاحى لــ "منتدى الشرق الأوسط للحريات" 28-29 نوفمبر 2007.الذي انعقد تحت عنوان " إلى أين تتجه مصر؟ "،
وأجتذب نخبة من ألمع العقول في مصر والخارج، ومثلت فيه مختلف الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية. وكلفت بعمل ورقة بعنوان " مستقبل الدولة المدنية في مصر؟ "، تقابل وتتكامل مع ورقة الصديق الدكتور سيد القمني حول " مستقبل الدولة الدينية في مصر؟ ".
ولم أكن أدري وقتئذ أن الداهية مجدي خليل من المتنبئين !
وأنه ربما كان يختبر تصوراته واستقراءاته من خلال أوراق هذا المؤتمر، الذي حفل بالفعل بالعديد من السيناريوهات الصادمة والتصورات المتشائمة. لكن يبدو أن الواقع في مصر أسبق من كل خيال، وأسرع من أغلب هذه السيناريوهات. ففي إشارة خطيرة لتعامل النظام مع الإخوان المسلمين أكد الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب، قبل أيام وفي قلب الولايات المتحدة، أنه آن الأوان ليكون للإخوان حزب بدلاً من اعتبارهم مستقلين لكي يبتعدوا عن صفة الجماعة المحظورة. وهو أول رد من قبل النظام الحاكم على برنامج الإخوان الذي قدموه منذ عام. وهو برنامج يضرب في مقتل فكرة الدولة المدنية ومفهوم المواطنة، ناهيك عن أن هذا التصريح يفتح الباب أمام جماعة الإخوان المسلمين للخلط بين الدين والسياسة، علي مستوي الممارسة والتنظير معا. ففي الذكري المئوية الثانية لتأسيس الدولة المدنية في مصر بقيادة محمد علي، اسفرت انتخابات مجلس الشعب عام 2005، التي استخدم فيها الدين جهارا تحت شعار " الإسلام هو الحل "، عن نجاح 88 عضوا من جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم ثار السؤال الصعب عن مصير الدولة المدنية – هذه المرة - عبر بوابة الديموقراطية. لم تكن هناك بالتأكيد أية مفارقة أو مصادفة، فقد كشف هذا التناقض عن أمور جد خطيرة، وأهمها عدم وجود التوافق الضروري علي " مقومات " الدولة في مصر التي ينبغي أن تتوافق القوي الوطنية عليها ويلتزم بها الجميع، لأننا لم نحسم بعد قضية العلاقة بين الدولة والدين، أو بين السياسة والدين، منذ القرن التاسع عشر. الأهم من ذلك هو الخلاف حول " طبيعة " الدولة، وليس فقط مقوماتها، كما يقول د. وحيد عبدالمجيد: نظرا لشيوع استخدام مفهوم " الدولة المدنية " دون تعريف محدد له أو لمدلولاته ونطاقه. ولا يوجد تأصيل لما يسمي بالدولة المدنية إلا التعريف بالسلب فقط، بمعني انها ليست " الدولة الدينية "، ونتج عن ذلك نوع من التلفيق وليس التوفيق أو التوافق. ففي ختام المؤتمر العام التاسع للحزب الوطني الحاكم (نوفمبر 2007 ) جدد الرئيس حسني مبارك الحديث عن: " توطيد دعائم الدولة المدنية الحديثة وقوامها المواطنة وتعزيز التعددية والعدالة الاجتماعية وعدم خلط الدين بالسياسة "... وهي المطالب نفسها تقريبا التي ينادي بها العلمانيون. وأعلن بالمثل المرشد العام الشيخ مهدي عاكف في أكثر من مناسبة: حرص الجماعة علي الدولة المدنية..
.. فأين تكمن المشكلة إذن؟ الدولة المدنية والديموقراطية يصعب في البداية مناقشة الدولة المدنية بمعزل عن الديموقراطية الليبرالية، لأنه في غياب الدعائم الليبرالية السياسية يمكن أن تؤدي هذه الديموقراطية إلى الفاشية، وتصبح وسيلة لسيطرة التيارات التي لا تؤمن بالديموقراطية من خلال الانتخابات نفسها، أي ضرب الديمقراطية بسلاح الديمقراطية. فهتلر علي سبيل المثال، فاز في الانتخابات الألمانية وألغى الديمقراطية عمليا بسلاح الديمقراطية.
والديمقراطية الليبرالية هى ذلك النظام الذى يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية: وهى مبادئ لا يمكن ضمانها إلا فى نظام تمثيلى برلماني. وهذه المبادئ لا تعود إلى اليونان كما يبدو للوهلة الأولى، وإنما إلى ثلاثة فلاسفة محدثين هم: جون لوك فيما يخص المبدأ الأول، ثم جون لوك ومونتسيكيو فيما يخص المبدأ الثانى، ثم جان جاك روسو فيما يخص المبدأ الثالث.
أما المبدأ الأول فهو مبدأ "التسامح"، ويلزم الدولة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات السياسية، والفلسفية والدينية، بشرط ألا تؤدى هذه المعتقدات إلى إشاعة الاضطراب أو الفوضى فى الساحة العامة للمجتمع.
وينص المبدأ الثانى على ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. فالسلطة التشريعية هى التى تصدر أو تبلور القوانين، والسلطة التنفيذية هى التى تطبقها أو تحولها إلى واقع، والسلطة القضائية هى التى تعاقب من ينتهكون هذه القوانين حتى ولو كانوا من رجال السلطة نفسها. وهذا المبدأ يهدف إلى إقامة دولة الحق والقانون، وهى تختلف عن الدولة السابقة القائمة على القوة فقط أو البطش والطغيان.
وأما المبدأ الثالث الذى لا يمكن لأى ديمقراطية أن تنهض وتستمر بدونه فهو مبدأ "العدالة". فالديمقراطية الحقيقية لا ينبغى أن تكتفى بكونها ديمقراطية شكلية مفرغة من المساواة والعدل.. فماذا تفعل الحرية إذا كانت الجماهير جائعة لا تملك قوتها؟.
بيد أن تراث الديمقراطية الليبرالية، خاصة فى انجلترا والولايات المتحدة، أدرك ضرورة وجود أحزاب المعارضة القانونية. ويعنى ذلك أن على حزب الأغلبية أو الأكثرية واجب التسامح مع حزب الأقلية المهزوم، ومن دون سياسة "التسامح" يمكن لسلطة الأغلبية فى وقت معين أن تؤدى إلى الدكتاتورية، وتنتهى فكرة الديمقراطية. هذا التسامح يعنى، فيما يعنيه، أن القرارات والإجراءات التى تتخذها الأغلبية، بما فيها سن القوانين، يمكن أن تظل موضع انتقاد الجماهير.
هكذا نجد أن الديمقراطية الليبرالية تفرز التسامح وترعاه أيضاً، وأن التسامح بدوره يحافظ على الديمقراطية من أن تتحول إلى نقيضها (الدكتاتورية) وخطرها المتمثل فى الشمولية والعنف. ذلك أن أية محاولة لإعطاء قرارات الأغلبية صفة (الإطلاق) تعنى انكار طبيعتها المشروطة، فيظل للأقلية الحق من خلال وسائل الإعلام فى أن تطالب بتعديل القرارات التى تم إصدارها فى فترة انتخابية أخرى. أضف إلى ذلك أن الإمكانية القانونية فى تشكل أغلبيات جديدة يعنى أنه ليس للأغلبية فى أى وقت الحق فى أن تفعل كل ما فى وسعها لمنع مثل هذا التغيير، حتى وإن لم تكن راغبة فيه. فعلى النقيض من ذلك، ينبغى للأغلبية الحاكمة أن تقبل هذه الإمكانية على أنها مسألة مبدئية. وأن يسمح قانونياً بتغيير الحكومة ويكون التغيير ممكناً فى الواقع. والشروط اللازمة لهذه "المسئولية الحقيقية" هى حرية الإعلام والنشر مع حرية التنظيم والتظاهر.
معني ذلك أن الديموقراطية الليبرالية تستند إلي دستور مدني يحقق المواطنة، لأن حكم الاغلبية لا يعني حرمان الأقلية في صنع القرار. ومن ثم فالديموقراطية التي تحكمها الأغلبية ولا تقوم على أساس ليبرالي تعرقل تحرر الأفراد والمجتمعات وتضيع حقوق الأقليات. إذن السبيل إلى الدولة المدنية هي الديمقراطية الليبرالية والمؤسسات الدستورية والقضائية المستقلة وحقوق الأفراد وحقوق الأقليات وحرية العقائد. أما القول بالحريات السياسية والانتخابات دون ديمقراطية ليبرالية فليس إلا خداع وتضليل.
بقلم: عصام عبدالله
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com
No comments:
Post a Comment