Sunday, December 09, 2007

الديمقراطية... رغم الفقر والأمية في مالي

في طفولتنا، ونحن نستمع بشغف إلي قصص ألف ليلة وليلة، كانت ترد على ألسنة الرواة، وشعراء الربابة، أسماء بلاد بعيدة وغريبة ـ مثل "الواق.. الواق"، و"نيام نيام"، و"تمبكتوا"، و"باماكو".. وفي صبانا حينما كان الزعيم جمال عبد الناصر في أوج شعبيته مصرياً وعربياً وأفريقياً وإسلامياً، كنا نسمع عن آباء الاستقلال في بلدان هذه العوالم ـ مثل شكري القوتلي، وأحمد بن بيلا ومحمد الخامس، وكوامي نكروما، وسيكوتوري، وموديبو كيتا. فضلاً عن نهرو، وسوكارنو، وتيتو. ولم يخطر ببالي في مرحلتي الطفولة والصبا، أنني سأزور هذه الأمكنة الغريبة البعيدة.
لذلك رحبت بدعوة "مجموعة البلدان الديمقراطية" لحضور اجتماعها الدوري الذي قررت المجموعة عقده لأول مرة في القارة الأفريقية. وكانت هذه المجموعة قد تشكلت عام 2000، وقصرت عضويتها على البلدان التي تكرّست فيها الديمقراطية بالفعل، وكذا تلك التي أخذت خطوات جادة ومتراكمة في التحول إلى الديمقراطية. وكانت منظمات المجتمع المدني في كل من إيطاليا، وإسبانيا، وبولندا، وتشيلي، هي التي أخذت المبادرة لتنفيذ فكرة تنظيم بلدانها، حكومات وأحزاباً وبرلمانات، للدفاع عن الديمقراطية والتبشير بها كأفضل أنظمة الحكم التي توصلت إليها المجتمعات الإنسانية، في مسيرتها الممتدة عبر آلاف السنين.
وكان المؤتمر التأسيسي الأول لمجموعة البلدان الديمقراطية قد انعقد في النصف الثاني من شهر يونيو 2000 بمدينة "وارسو"، عاصمة بولندا. وكان من مظاهر جدية "مجموعة البلدان الديمقراطية" أنها في مؤتمرها التالي، عام 2002 في مدينة "سيول" (عاصمة كوريا الجنوبية) طردت حكومات مصر وروسيا وعدة بلدان أخرى من العضوية الكاملة ، وخفضتها إلى عضوية منتسبة (مراقب) بسبب مخالفات حقوقية جسيمة، وسنعود إلى قضية طرد النظام المصري من المجموعة في مقال آخر.
كان المؤتمر الثالث للمجموعة في مدينة سانتياجو، عاصمة تشيلي، في أمريكا اللاتينية. وحاولت مصر وروسيا العودة للعضوية الكاملة، ولكنها وبلدان أخرى لم تفلح. فكيف حصلت "مالي"، وعاصمتها باماكو على العضوية الكاملة، ثم استمرارها، ثم شرف استضافتها للمؤتمر الرابع للمجموعة؟ إن هناك تنافساً شديداً بين أعضاء المجموعة على استضافة مؤتمراتها، التي أصبحت بمثابة أوليمبياد الديمقراطية، شأنه في ذلك شأن التنافس على استضافة "المونديال" في كرة القدم، أو دورة الألعاب الأوليمبية. فالاستضافة هي مؤشر للاستقرار وحكم القانون، ويشارك البنك الدولي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكل المنظمات الحقوقية الدولية والشركات الكبرى في هذا "الأوليمبياد الديمقراطي". ويعرض فيه المشاركون ـ حكومات ومجتمعاً مدنياً وشركات ـ آخر ممارساتهم وإبداعاتهم في تعظيم المشاركة في العمل العام، والمراقبة والمحاسبة، ومناهضة الفساد، والتسوية السلمية للخلافات والصراعات الأهلية والإقليمية. وعودة إلى "مالي"، التي تنافست مع جنوب أفريقيا والمغرب والسنغال على الاستضافة، وحظيت هي بها.
لقد كان ضمن مبررات المحلفين (المحكمين) في اختيار مالي، هو أنها رغم أنها أفقر البلدان الأربعة المتنافسة، فإنها كانت أكثرهم التزاماً بكل معايير التعددية، والتناوب على السلطة من خلال انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة في ظل رقابة دولية. فرغم أن البلدان الثلاثة الأخرى التي تنافست مع مالي على استضافة الأوليمبياد الديمقراطي، تحظى أيضاً بانتخابات حرة ونزيهة، فإنها لم تشهد تداولاً على السلطة، مما جعلها أشبه بأنظمة الحزب الواحد. فما هي قصة مالي عن قرب؟.....
كانت مالي، مثل كثير من بلدان غرب وشمال أفريقيا، مستعمرة فرنسية، لأكثر من قرن من الزمان. ولكنها استقلت في ستينيات القرن العشرين، مع غيرها ممن شهدت حركات التحرير. وكان الزعيم "موديبو كيتا" الذي تزامن مع وصادق الرئيس عبد الناصر، هو الذي قاد حركة تحرير مالي.وانتخبه شعبه كأول رئيس للبلاد. ولكنه كغيره من زعماء ما بعد الاستقلال في العالم الثالث، استمرأ احتكار السلطة والبقاء فيها إلى أن ضاقت به قطاعات كبيرة من نفس الشعب الذي كان قد التف حوله وهتف باسمه في سنوات الكفاح من أجل الاستقلال، وفي السنوات الأولى من عمر الدولة الجديدة. وانتهز بعض ضباط الجيش هذا التململ الشعبي، وانقلبوا على موديبو كيتا. وظلت الديكتاتوريات العسكرية تتتابع، إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وإلى أن كان آخرها بقيادة ضابط تلقي عدة دورات عسكرية في عواصم غربية، لمس فيها هو وغيره من شباب الضباط أهمية الديمقراطية للاستقرار والتنمية والازدهار.
هذا الضابط هو العقيد "محمدو توري".فتعهد هو وزملاؤه بأن يكون انقلابهم (1988) هو آخر الانقلابات، حيث إنهم سيعدون بلدهم في غضون فترة زمنية لا تتجاوز سنتين لحكم ديمقراطي نزيه، تحت إشراف دولي. ولإثبات الجدية وحسن النوايا، تعهد هؤلاء الضباط بترك الخدمة، وخلع زيهم العسكري، مع نهاية الفترة الانتقالية وإقرار دستور ليبرالي، لا يسمح لأي رئيس منتخب بأن يتجاوز فترتين رئاسيتين، أقصاهما معاً عشر سنوات.
وصدق "محمدو توري" وزملاؤه بما وعدوا به. وتم بالفعل انتخـاب رئيس مــدني، هـو د. ألفا عمر كوناري، أستاذ التاريخ بجامعة باماكو. وكان أداؤه جيداً، فأعيد انتخابه لفترة أخرى، أصبح بعدها الرئيس السابق أحمد عمر كوناري. وقد تسلم السلطة منه الرئيس المنتخب الجديد الذي رشحه أحد الأحزاب الرئيسية (آدما، باريا، الشعب)، والذي تصادف أن يكون الضابط المتقاعد "محمدو توري".
وقد استضافنا الرئيس المالي محمدو توري على العشاء في الليلة الأخيرة للمؤتمر.
وسألته مداعباً: "هل حينما قام بالانقلاب، وسلم السلطة لحكومة مدنية منتخبة، كان يخطط للعودة إلى القصر الجمهوري، حيث العشاء، ولكن كرئيس منتخب، بعد عشر سنوات؟" وأجاب الرجل بعفوية: "تمنيت ذلك بالفعل وقتها، ولكني لم أخطط للأمر.فعشر سنوات هي فترة طويلة، ولا أحد يستطيع التحكم في مجريات الأمور في العالم الثالث لعشرة شهور، ناهيك عن عشر سنوات! ولكني سعيد بما حدث، وأنا الآن في سنتي الأخيرة من فترة رئاستي الثانية، وأتطلع بكل فخر لتسليم السلطة لمن سينتخب ليخلفني في العام القادم".
وفي نهاية المساء، وأنا أهم بالانصراف، سألت الرئيس محمدو توري، هل يعتقد أن جيرانه الموريتانيين في الشمال، سيفعلون الشيء نفسه؟ ابتسم الرجل وقال بنفس العفوية إنه لا يستبعد ذلك، خصوصاً أن العقيد محمد ولد فال وزملاءه كانوا قد زاروا مالي بالفعل، واطلعوا على تجربتها تفصيلاً، بل صاغوا دستورهم على المنوال نفسه تقريباً. فقلت: "هذا معناه أن العسكريين يعودون إلى الحكم كل عشر سنوات!".قال الرئيس توري: "لا ليس بالضرورة، فالناخبون هم الذين يقررون"... ثم سألني: "كم سنة ظل الرئيس مبارك في السلطة؟" فلما أخبرته بأنه يدخل عامه السابع والعشرين، قال: "أليس حالنا أفضل قليلاً؟" سارعت بقولي: "لا يا سيدي الرئيس، بل أفضل كثيراً، ليتنا كنا مثلكم!"
قال: "ولكن ليس لدينا أهرامات أو حضارة خمسة آلاف سنة!" شددت علي يد الرئيس محمدو توري مودعاً: "تصبحون على خير سيدي الرئيس". لقد كنا قد تعلمنا في علم الاجتماع السياسي أن للديمقراطية شروطاً لا بد من توفرها لكي تبدأ، وتستمر، وتتجذّر منها نسبة عالية من التعليم والدخل والتحضر، ووجود طبقة وسطى، ونخبة سياسية مؤمنة بالقيم الديمقراطية. ومن هذه الشروط الخمسة، لم أجد في مالي متوفراً غير شرط واحد، وهو نخبة سياسية تؤمن بالقيم الديمقراطية.ويبدو أن هذا الشرط هو مربط الفرس، وهو متوفر في مالي كما كان متوفراً في الهند، لذلك لديهم ديمقراطية. وهو غير متوفر عندنا، ولذلك ليس في مصر ديمقراطية
ولكن العزاء، هو أن عندنا ـ كما قال الرئيس محمدو توري ـ "الأهرامات والخمسة آلاف سنة حضارة" فلا حول ولا قوة إلا بالله
د. سعد الدين إبراهيم - آفاق

No comments: