كنت آتصور أن حكومة الدكتور احمد نظيف سيجافيها النوم، ولن يغمض لها جفن، وهى ترى السعودية تقوم بتنفيذ فكرة الدكتور أحمد زويل بإنشاء مركز علمى متفوق سبق أن اقترح إقامته فى مصر ونجح سوء تدبير هذه الحكومة فى "تطفيش" الرجل وقتل مبادرته.
وبينما تبنى العاهل السعوديى، الملك عبد الله، فكرة العالم المصرى الكبير، ونجح فى إقناعه بالانضمام إلى المجلس الاستشارى العالمى "لجامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا"، والتى تقوم على نفس فلسفة المشروع الذى اقترحه زويل على حكومة نظيف لبناء صرح علمى عصرى مصرى، ..، كان "النجاح" الكبير لحكومتنا الموقرة هو أنها جعلت العالم المصرى والعربى الوحيد الحائز على جائزة نوبل فى العلوم يضع أصابعه العشرة فى الشق ويرفع راية الاستسلام ويتخلى عن حلم إنشاء مركز علمى حديث على ضفاف النيل.ولم يكن صعباً على الزميل مجدى مهنا أن يكتشف "إن جامعة الملك عبدالله هى الأقرب إلى فكرة الدكتور أحمد زويل بإنشاء مركز علمى، كالذى اقترح تنفيذه فى مصر" لكن "الذى حدث بعد ذلك عرفناه .. انها البيروقراطية المصرية، والغيرة من أن ينسب نجاح الفكرة إلى الدكتور زويل". واختتم مجدى مهنا رصد لهذه المفارقة المحزنة بقوله "أسعدنى أن يتبنى الملك عبدالله فكرة الدكتور زويل وأغضبنى أن تعارض مصر الفكرة".واختلافى البسيط مع صديقنا العزيز مجدى مهنا هو أن "مصر" لم تعارض الفكرة، وإنما التى عارضتها وأحبطتها هى حكومة قصيرة النظر وبيروقراطية طويلة اليد واللسان.وعلى عكس هذه الحيل والمكائد البيروقراطية المصرية السخيفة التى أغلقت أبواب الأمل أمام حلم إنشاء صرح علمى مصرى نجد سلوكاً سعودياً مناقضاً على طول الخط، نجح الزميل أحمد المسلمانى فى تجسيده لنا من خلال أداء صحفى محترم، حيث قام بالاتصال بالدكتور أحمد زويل وسأله عما جاء فى مقال مجدى مهنا وعن ظروف عضوية فى المجلس الاستشارى العالمى فى جامعة الملك عبدالله. فقال زويل لأحمد المسلمانى " زرانى وزير البترول السعودى المشرف على المشروع فى مكتبى فى الولايات المتحدة. وعرفت منه مدى استعداد المملكة لمشروع ضخم كهذا. وحين اجتمعنا نحن أعضاء المجلس الاستشارى العالمى – الذى يضم عشرة أعضاء من الشخصيات العلمية البارزة فى العالم من بينهم شخصية سعودية واحدة – وجدنا الجدية الكافية. وقررنا الاستقلالية الكاملة للمشروع، وهى الاستقلالية التى كنت أنادى بها فى مصر..".كيف تستطيع حكومة نظيف أن تبرر هذه الفضيحة، وهى فضيحة لا تقتصر على "تطفيش" أحد أفضل العقول المصرية، وحرمان وطنه من ثمار عبقريته التى هرع السعوديون لاستقطابها، ..، وإنما تمتد إلى مجالات أخرى كثيرة سبقتنا فيها العرب، بينها مثلا "مشروع دعم المعرفة والتعليم والترجمة فى العالم العربى" فى دبى الذى رصد له الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس دولة الإمارات 10 مليار دولار.هذه المبادرة التى انطلقت تحت عنوان "مؤتمر المعرفة الأول" تستهدف صهر جهود النخب العربية فى بوتقة مشتركة تساهم فى سد الفجوة المعرفية والرقمية بين العالم العربى وبقية دول العالم المتقدم، فى وقت بلغ عدد الأميين العرب ( فى الفئة العمرية 10 سنة فأكثر) نحو 71 مليون نسمة، أى ربع مقدار العرب تقريباً، والعهدة على احصاءات جامعة الدول العربية لعام 2006.وهذا يعنى أن بعض البلدان العربية الأخرى، التى لم يكن معروفا عنها ولعها بالعلم والتكنولوجيا، بدأت تتحرك، وتبنى صروحاً علمية كان الأولى ان تبادر مصر إلى إنشائها واحتضانها، ليس من باب العنصرية، وإنما بحكم طبائع الأشياء والسبق التاريخى المصرى فى العلوم والآداب والفنون، الذى أصبحنا – للأسف الشديد – نتحدث عنه بصيغة الفعل الماضى.ونحن يسعدنا أن نتقدم الدول العربية الشقيقة – كما يقول الزميل مجدى مهنا – لكن يحزننا أن نتأخر نحن، وأن نفقد الريادة المصرية فى معظم المجالات، المجال تلو الآخر، بما فى ذلك مجال العلم والبحث العلمى.ولا تقولوا لنا أن الدول الخليجية التى ترعى هذه المبادرات العلمية المهمة لديها فوائض مالية ضخمة تيتح لها القيام بذلك. لأن المسألة ليست مسألة "فلوس" فقط، فعندما يكون لدى دولة عالم كبير بوزن الدكتور أحمد زويل ومئات وآلاف العلماء والباحثين والفنيين فإن هذا يمثل ثروة تعادل مليارات الدولارات.ونحن نمتلك هذه الثروة البشرية التى لا تقدر بمال لكننا نهدرها بفضل التخبط الحكومى والبلادة البيروقراطية اللامسئولة. وخير دليل على ذلك ما فعلناه بالدكتور أحمد زويل.ولأن الطبيعة تكره الفراغ، فإنه بقدر ما نضيق على العلم والبحث العلمى والعلماء والباحثين، بقدر ما نمهد مزيداً من الأرض أمام مؤسسة الخرافة والجهل النشيط. وقد أصبحت منتجات هذه المؤسسة انطلاقية من أهم "صادراتنا" فى الوقت الراهن.وليست هذه الوصمة حكراً على مصر بطبيعة الحال، بل إنها تكاد أن تكون القاسم المشترك الأعظم بين بلدان العالمين العربى والإسلامى التى يتفشى فيها الجهل والأمية. الأمر الذى اعترف به أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامى تتراوح نسبة الفقر فيها بين 20 و 60 فى المائة، بينما تتفشى الأمية فى 36 دولة من دولها بنسبة تتراوح بين 20 و 81%.كما اعترف عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية بأن "معدل الانفاق والاستثمار فى البحوث والتطوير فى العالم العربى محدود جدا، ويقترب من الصفر، فى نسبته إلى الناتج القومى، وهو ما ينعكس فى مستوى الانتاج الفكرى والعلمى المترجم إلى اللغة العربية ومنها، والذى أصبح من أقل المستويات فى العالم، بكل ما يعنيه ذلك من خلل فى المستوى العام للمعرفة لدى الأجيال المعاصرة والصاعدة"لذلك فإنه بقدر ما يسعدنا ظهور بؤرة علمية أو تكنولوجية فى هذا البلد العربى أو ذاك، بقدر ما يستفزنا ذلك ويثير حفيظتنا فى مصر، ويجعلنا نتساءل عن الأسباب التى جعلتنا ننحدر إلى هذا المستوى الذى لا يليق بتاريخ مصر أو سجلها الحضارى أو حتى امكانياتها البشرية والمادية الراهنة.والأهم .. هو أن تحديث مصر، وتقدمها، غير ممكن بدون إعادة الاعتبار إلى العلم والعلماء والبحث العلمى ومملكة العقل والتفكير النقدى.ومثال أحمد زويل هو نموذج صارخ لإهدارنا لـ "أصول" عظيمة نمتلكها لكننا نبددها، مثلما نبدد مليارات الجنيهات فى سراديب الفساد ودهاليز البيروقراطية ثم نشكو من ضيق ذات اليد والعجز من توفير التمويل ثم نشكو من ضيق ذات اليد والعجز عن توفير التمويل الملائم لمراكز البحث العلمى. أنظرواً مثلاً إلى المليارات التى أهدرناها فى مشروعات بدون جدوى اقتصادية مثل أبو طرطور والعديد من المشروعات التى أطلقنا عليها إسم المشروعات "العملاقة"، أومشروعات غير مدروسة مثل جراج ميدان رمسيس الذى قامت الحكومة ببنائه وأنفقت عليه الملايين ثم هدمته بيدها بعد أن أكتشف أنه متناقض مع مقتضيات التخطيط السليم، ناهيك عن هدر إمكانيات بالمليارات نتيجة للفساد والافتقار إلى الشفافية والمحاسبة الحازمة وغير الانتقائية.باختصار .. القضية ليست هى "الفلوس"، لأن المعرفة ذاتها أصبحت اليوم فى ظل ثورة المعلومات أكبر رأس مال. ولا يمكن أن نتقدم مصر إلا إذا نفضت غبار التخلف ؟؟ مجتمع المعلومات ثم مجتمع المعرفة. ولن يتحقق ذلك بدون قاعدة علمية وتكنولوجية وطنية عريضة تتطلب بدورها ثورة فى منظومة التعليم البالية المعادية للإبداع والمنافية لروح العصر واحتياجات المجتمع.ليس هذا فقط ... بل إنها هذه المنظومة التعليمية المتخلفة باهظة التكليف أيضاً لنها تستنزف مليارات من الميزانية التى تعانى من عجز مزمن سلفاً، فضلاً عن مليارات مماثلة يدفعها الأهالى مضطرين فى صورة دروس خصوصية من أجل تسهيل حصول آلاف مؤلفة من أبنائنا سنوياً على شهادات لاقيمة لها فى سوق العمل، فيكتفون بتعليقها على الجدران ويقفون فى طابور البطالة الطويل.هذه الحلقة الجهنمية.. لا يمكن أن تستمر ولم يعد المجتمع يستطيع أن يتحمل تبعاتها التى تعيد إنتاج الجهل والتخلف الطارد لأفضل العقول مثل أحمد زويل وغيره العشرات والمئات .. وربما الآلاف
No comments:
Post a Comment