قلب العروبة (بتسكين اللام) يعني ما هو في الصدر، ولكن قلب العروبة أيضا (بفتح اللام) يعني أنه جعل أعلاها أسفلها. سورية هي قلب العروبة النابض، كما تقول دمشق. لكن الناظر بعين محايدة إلى علاقات سورية الدولية لا تفوته ملاحظة العلاقة الخاصة بين سورية والجوار غير العربي مثل إيران وتركيا. تحالفت سورية مع إيران أثناء حرب الأخيرة مع عراق صدام. أي أن الدولة العربية تحالفت مع دولة غير عربية ضد نظام عربي، أيا كان تعريفنا لطبيعة هذا النظام. ويستمر هذا التحالف حتى اليوم ليس مع إيران فحسب، بل حتى مع حلفائها في المنطقة، مثل حزب الله وجماعة خالد مشعل.
التحالف الإيراني ـ السوري قد يكون لديه ما يبرره، أو يمكننا القول إنه مفهوم. لكن سورية اليوم تقف مع تركيا ضد العراق في مسألة الأكراد. ومن تابع تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد خلال زيارته الأخيرة لتركيا يرى وبوضوح أن سورية اليوم تقف في الخندق التركي بخصوص هذه المشكلة وليس مع العراق. الأكراد حتماً ليسوا عرباً، لكنهم اليوم وبشكل قانوني وحدودي ضمن دولة العراق العضو في جامعة الدول العربية.. وبهذا كانت سورية مع إيران ضد العراق في الحرب، وهي اليوم مع تركيا ضد مصلحة الدولة العراقية. وبما أن الدولتين اللتين تتحالف معهما سورية ليستا عربيتين،
إذن سورية كدولة ترجح مصالحها الوطنية على مسألة العروبة الشعاراتية. قد يقول قائل إن التوتر بين سورية والعراق يرجع إلى شخصنة في العلاقات الدولية مرتبطة بالعلاقة السيئة بين الرئيسين الراحلين الأسد الأب وصدام حسين. ولكن حالة تحالف سورية مع تركيا ضد عراق جديد يتولى أمره قادة كانوا يعيشون في دمشق كمعارضة، وفي ظل الزيارات المتكررة بين بغداد ودمشق، ينتفي التفسير السابق الذي يضخم الدور الشخصي للقيادة كأساس لتفسير العلاقات بين الدول. إذا نظرنا إلى حدود سورية نجدها محاطة بتركيا (غير عربية) في الشمال، والأردن (عربي) في الجنوب، ولبنان من الغرب (عربي)، والعراق من الشرق (عربي)، ومع إسرائيل (غير عربية طبعاً) من الجنوب الشرقي. سورية متصالحة مع كل الجوار غير العربي حولها ما عدا إسرائيل. وسورية تدعم مواقف تلك الدول، فهي تؤيد موقف تركيا ضد الأكراد الذين هم مصدر قلق أنقرة الأساسي، وهي أيضا تؤيد كل مواقف إيران تقريبا، من مسألة حزب الله في لبنان إلى المواجهة المحتملة بين إيران وأميركا. سورية تتعاون مع كل جيرانها من غير العرب، ولا يبقى إلا أن تتعاون مع إسرائيل. ولا أقول هنا إن هذا أمر وارد، وإنما هو منطقي في فهم تعاطي سورية مع محيطها غير العربي. في المقابل، نجد أن علاقة سورية مع الدول العربية التي تتشارك وإياها الحدود، الأردن ولبنان والعراق، هي علاقات متوترة على طول الخط، من دخول دباباتها إلى الأردن في السبعينات، إلى دخول جيوشها إلى لبنان، إلى حشد قواتها على الحدود العراقية، وإقامة محطتي راديو في كل من بغداد ودمشق تلعن كل منهما «بعث» الأخرى.
إذن، وبتحليل محايد، يمكن القول إن دعوات سورية العروبية تسير في اتجاه، بينما سلوك الدولة السورية يسير في اتجاه آخر. الحديث الرسمي السوري مشحون بمفردات العروبة والتضامن العربي والأمة العربية الواحدة، والسلوك السوري يميل إلى عكس ذلك. وأرجو ألا أفهم على أنني من الشوفينيين المتعصبين للقوميات أو أنني أريد الدول العربية أن «تسيح» على بعضها. أنا شخصياً مع الدولة الوطنية وأعجب كثيرا بالدولة التي تراعي مصالحها بوضوح دونما غطاءات آيديولوجية فضفاضة.
سلوك الدولة السورية في بناء التحالفات مع غير العرب من دول الجوار، الفرس والأتراك، الذي يضع مصلحة الدولة فوق كل اعتبار، يؤشر إلى أن الخطوة المنطقية القادمة في السياسة الخارجية السورية، هي التحالف مع آخر دولة غير عربية تشاركها الحدود وهي إسرائيل، إذا ما توافقت مصالحهما يوماً ما. أي أن فرصة التسوية بين سورية وإسرائيل قد تكون أقرب من التسوية الفلسطينية ـ الإسرائيلية. لذا، فإن دعوة سورية إلى مؤتمر السلام القادم ضرورة لإنقاذ المؤتمر. فلو كانت هناك فرصة لنجاح هذا المؤتمر، ستكون على المسار السوري للمفاوضات. وهذه نقطة تحتاج إلى شرح كثير.
التحالف السوري ـ الإسرائيلي قد يبدو ضرباً من الوهم وغريبا بالنسبة للبعض ومستهجنا عند البعض الآخر، لأن إسرائيل ما زالت تحتل مرتفعات الجولان السورية. ولكن هذا (أي النزاع على الأرض) لا يبدو عائقا أساسيا أمام القيادة السورية في حالة تركيا مثلا، فالأتراك يحتلون لواء اسكندرون، ومع ذلك تقيم دمشق علاقة مهمة معهم. وربما يظن أن علاقة سورية المميزة مع إيران هي «الفرامل» التى تعطل تفعيل العلاقة السورية ـ الإسرائيلية. لكن إيران ذاتها، وفي قلب الثورة الإسلامية، عقدت صفقة (تحت الطاولة) مع إسرائيل في فضيحة إيران كونترا الشهيرة. تركيا حليفة سورية لها علاقات خاصة مع إسرائيل أيضا، وهي اليوم تتوسط بين الطرفين السوري والاسرائيلي للتوصل إلى حل للأزمة. قطر حليفة سورية في الخليج لها مغازلات خاصة مع إسرائيل. أصدقاء سورية من الدول لهم علاقات مع إسرائيل، أما أصدقاء سورية من الحركات مثل حزب الله وحماس، فهم في حالة (مقاومة) حتى تنضج الصفقة.
اللغز السوري محير حقا في سياق إقليمي يسبح في عالم الخيالات المثالية، من وحدة عربية منشودة إلى «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». ولو كان هذا السلوك السوري في سياق المدرسة الواقعية الأوروبية مثلا، لما كان محيرا على الإطلاق. فالعلاقات بين الدول تحكمها المصالح ولا يحكمها خيال الشعراء!
الفجوة، أو سمِّها الهوة الشاسعة، ما بين شعارات سورية الرسمية والتلفزيونية والحزبية وبين سلوك الدولة السورية، غير مفهومة للمواطن العربي المعبأ منذ الطفولة بتلك القيم. ليست لديَّ تحيزات أو حساسيات هنا، وعقلي منفتح على أيِّ تفسير يحاول أن يجسر تلك الفجوة أو يفهمنا لماذا هذا التناقض بين القول والممارسة في سياقه العربي.
منطق الواقعية السياسية الذي تعتمده السياسة الخارجية السورية من تغليب لمصلحة سورية أولا، يمثل صفحات مأخوذة كما هي من كتب أساتذة في علم العلاقات الدولية مثل مورجانثاو ووالتز. ومن هذه الخلفية التفسيرية، يمكننا القول إن فرصة تسوية سياسية بين سورية ولبنان هي أصعب من فرصة تسوية بين سورية وإسرائيل. قد تبدو المقولة مستغربة للوهلة الأولى، لكنها هي الحقيقة المحتملة والممكنة في عالم الدول. فالعلاقات السورية ـ اللبنانية تقع في حيز الوهم والشعارات، بينما علاقات سورية ـ إسرائيلية ستكون بالضرورة ضمن عالم الواقعية السياسية.
قلب سورية وعواطف كثير من جماهيرها قد عبئت بالشعارات، مما دفع الناس إلى السير مع الحركات السياسية المراهقة التي لم تصل إلى رشد الدولة بعد، ولكن عقل الدولة السورية تسيِّره المصالح ولو بتحالفات تبدو مستهجنة عند البعض من دول الجوار. قلب سورية يغزل نسيجاً من الحركات والشعارات والخطابات حولها.. ربما كان القائمون على الأمر في دمشق مغرمين بألوانه ورسومه وبأنهم يقذفون كرة الخيوط أمام من يشاءون لإرباكهم في السير، ولكنه نسيج غدا كثيفاً اليوم وأصبح يغطي مساحات كبيرة في المنطقة، مما قد يؤدي يوماً ما إلى أن تتعثر فيه أقدام الدولة السورية نفسها
مأمون فندي - الشرق الأوسط 5/11/2007
No comments:
Post a Comment