Tuesday, October 30, 2007

محمد حسنين هيكل: نظم الحكم القائمة لم تؤسس لنفسها شرعية دستورية ولم تعد سلطتها تفويضاً وإنما قمع

ألقي الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، محاضرة في جامعة أوكسفورد ، مساء أمس، بعنوان: «جسور وعوائق».
جاءت المحاضرة بدعوة من رئيس الجامعة اللورد كريس باتن، ومعهد رويترز للصحافة، وحضرها رئيس مؤسسة رويترز وأعضاء من السلك الدبلوماسي وإعلاميون وأساتذة الجامعة الشهيرة، وطلبتها، وأعقبها حفل استقبال، وعشاء لكبار الشخصيات.
وتنشر «المصري اليوم»، هنا، نص المحاضرة، التي تعتبر الأولي منذ تأسيس المعهد عام ٢٠٠٦.

اللورد «باتن» رئيس جامعة أوكسفورد
حضرات السيدات والسادة
يسعدني ويشرفني أن تتفضلوا بدعوتي أول متحدث في المحاضرة التذكارية بكلية الصحافة التي أسس لها هذا التوافق بين جامعة «أوكسفورد» ووكالة «رويترز».
إن هذا التوافق بين جامعة عريقة (أوكسفورد) ووكالة أنباء شهيرة (رويترز) يصعب أن يكون لقاء مصادفات، إذا دققنا أسبابه وتمثلنا نتائجه.
ومن وجهة نظر عملية - وعلمية كذلك - فإن الصحافة علي تنوع وسائلها وأدواتها لديها ثلاثة طرق اقتراب واضحة إلي وظيفتها الحيوية في مجتمعات الحرية والتقدم.
أول طرق الاقتراب: أن تكون الصحافة - مكتوبة أو مسموعة أو مرئية - خطوطا مفتوحة تنقل القرار السياسي علي اختلاف مجالاته: داخلية وخارجية - اقتصادية واجتماعية - إستراتيچية وعسكرية - من مواقع صُنعه إلي أوسع دوائر المواطنة التي يهمها شأنه، بحيث يتأكد الحق العام في العلم به، وتتوافر إمكانية التعرف علي موجباته، والاستعداد لآثاره وتكاليفه،
والاطمئنان إلي اتساقه مع الإرادة العامة في الوطن وخارجه، ولكي يظل تحت المتابعة الدستورية والقانونية، ويصبح الرأي العام قادرا علي ممارسة مسؤولية الرقابة عليه، وعلي إعادة توجيهه ديمقراطيا إذا لزم.
وطريق الاقتراب الثاني: أن تكون وسائل الصحافة وأدواتها خطوطا مفتوحة - أيضا - ما بين مجالات الفكر والعلم والفن من مراكز حيويتها، سواء في الجامعات، أو المعاهد ومراكز البحث، أو مسارح العرض والأداء وأشكالها المتعددة في التعبير - إلي جمهور واسع له الحق أن يري ويستوعب ويستمتع.
وطريق الاقتراب الثالث: أن تحاول نفس الوسائل والأدوات قصاراها كي تنقل وتستثير أنفع وأرفع حوار بين القرار السياسي وشؤونه الجارية وقضاياه واهتماماته - وبين الأفكار وقدرتها علي تخصيب الفعل الإنساني وتوليده، لكي يجمع الحوار ما بين الفعل والفكر، ويؤكد القيمة ويحفز إرادة إنسانية ذكية وقوية - وهنا فإن التوافق بين الجامعة العريقة ووكالة الأنباء الشهيرة يصبح مرغوبا فيه ومطلوبا.
إن طرق الاقتراب الثلاثة كما وصفتها لا تحقق مطلوبها بهذه البساطة التي وصفتها، فالواقع العملي أكثر تعقيدا، لأن مراكز صُنع القرار لا تمارس فعلها في المثالي المفترض، وإنما تمارسه تحت سطوة صراعات تاريخية كبري ومصالح يتعارض بعضها مع بعض، والكثير منها غائر في زمانه، أو جامح في مقاصده، أو عنيف في ممارساته، وفي ظل هذه الأحوال فإن القرار السياسي تحكمه - بالقطع - عوامل غير مثالية!
بالتوازي فإن مجالات صُنع الأفكار ومنجزات العلوم وتجليات الفنون لا تطرح ما لديها في ذات الفضاء المثالي المفترض، وإنما تتأثر هذه المجالات في مجمل نشاطها بضغوط يناسبها أن تضرب علها تزيح، أو تحجب علها تحتكر، وهنا تبرز عوائق تعرقل المثال الحر للقيمة والقدوة.
يلي ذلك أن قنوات الاتصال التي تمثلها الصحافة لا تمارس دورها في نقل الأخبار والأفكار وصوت وصدي الحوار، علي خطوط مستقيمة سالكة ومطهرة، وإنما تتعرض قنواتها المفتوحة علي الطرق الطويلة لأنواع ودرجات من التدخل والتحيز تمليها الصراعات والضغوط والمصالح، وحتي الأهواء والأمزجة.

حضرات السيدات والسادة
إنني سعيد بهذه الفرصة التي أتحتموها لي كي أتحدث أمامكم في هذه المناسبة التي توافقت فيها جامعة عريقة مع وكالة أنباء شهيرة علي لقاء يسهم في دعم كفاءة الإعلام من حيث إعداده وتأهيله لأداء دوره دون عوائق بين القرار والأفكار والحوار، وبحيث يتحمل هذا الإعلام مسؤوليته في أزمنة متغيرة.
إننا نتحدث كثيرا عن عالم واحد لكن مثل هذا الحديث فيه قدر من المبالغة، أو ربما التمني، فقد نكون في حكم الجغرافيا عالما واحدا، لكننا في حكم التاريخ عالمين: شمال وجنوب، وليس يجدي أن نتأدب ونجامل في الحقيقة، وكذلك ليس يجدي أن نكتفي بالنظر إلي النخب المتعولمة في الجنوب، وننسي الكتل الهائلة من البشر وراءها - بل وبعيدا عنها.
إن هناك عالمين: شمال وجنوب - والفجوة بين الاثنين واسعة وخطرة، وهي تزداد اتساعا وخطرا إذ تلتبس الحقائق وتتداخل الهواجس بين المثالي المفترض وبين الواقع العملي المعقد عند صناع القرار والأفكار، وعندما تتلكأ قنوات النقل والتدفق الحر، وتتلوي مرات وتنسد مرات، وتصبح الفجوة هوة، والهوة هاوية، وتتحول الرسالة لغما في حرف أو قنبلة في رسم!
حضرات السيدات والسادة
إذا كانت دعوتكم مبعث سعادة وشرف لي، فهي في ذات اللحظة مسؤولية تدعوني أن أتحدث معكم بصراحة وأمانة، أزعم أنها قد تكون مقبولة مني وربما مغفورة.
ذلك أنني رجل من عالم الجنوب يدرك هموم عالمه لأنه يعيش واقعه، وهو يتحدث إلي عالم الشمال ويحسب أنه يستطيع فهمه، بظن أن الظروف أتاحت له أن يعيش مهنة الصحافة في الجنوب وفي الشمال معا، فقد كتب في العالم العربي وعنه، ومارس في الجريدة والكتاب والتليفزيون هناك،
ثم إن الظروف منحته فرصة أن يمارس هنا كذلك - وانطلاقا من هذا البلد بالتحديد، حيث قامت صحف ودوريات بريطانية عديدة مثل «التايمس» و«الجارديان» و«الإندبندنت» و«الأبزرفر» بنشر مقالاته وأحاديثه،
ثم إن مؤسسات نشر عريقة قامت بإصدار الطبعات الأصلية من كتبه، فظهرت كاملة في المكتبات لطالبيها، ثم نشرت علي فصول مسلسلة حملتها صحف كبري مثل «الصنداي تلجراف» و«الصنداي تايمس» إلي جانب مقالات وأحاديث وغيرها، وكل ذلك أخذ عمله إلي لغات كثيرة وصلت به واسعا وبعيدا!
حضرات السيدات والسادة
قلت إن انتمائي لعالم الجنوب يجعلني مدركا لهمومه ومشاكله، وقلت إنني زائر للشمال يظن أو يتوهم أنه يتفهم هذا العالم ومحركاته، وقلت إن المسافة بين العالمين واسعة وتزداد اتساعا، وأسمح لنفسي بالقول ومن هذه الحافة بين العالمين بأننا نحتاج الآن وبسرعة إلي جسور لعبور هذه المسافة، وإلا تصادمت الكتل ووقعت انفجارات مهولة تسقط مثل الكواكب التي يختل مدارها في ثقوب سوداء في مجاهل الفضاء! - وبعض ذلك وارد، واحتمالاته تتزايد إن لم نبذل جهدا، وأول الجهد أن نتصارح، مهما كانت المصارحة مزعجة!
دعوني أبدأ وأقول بتعميم إجمالي إن عالمنا في الجنوب يشعر بأن القرار الصادر من مراكز القوة الدولية - كما يصل إليه - يصدمه بقسوة لا يبدو أنها تأبه وتهتم - وبإصرار علي العنف لا يبدو أنه يخشي أو يتحرج - ثم إن صوت الحوار لا يدعوه إلي مشاركة، لأن القرار في معظم الأحيان ينقض عليه بغتة ودهما.
يشعر عالمنا في الجنوب كذلك أن دنيا الأفكار والعلوم والفنون - كما تضيء أمامه من بعيد - ليست مقبلة عليه أو مرحبة به كما يأمل ويتمني.
ثم إن صوت الحوار يصل إلي الجنوب - إذا وصل - مثقلا بشوائب من التحيز بل والعدوانية!
وهنا وفي هذا السياق فإنني أستأذن أن أطرح أمامكم ثلاث ملاحظات، آمل أن توضع في اعتباركم، راجيا أن لا يعتبر القول فيها نوعا من الشكوي أو عارضا من هواجس عقد نفسية لدي القائلين بها، وإذا بدا ظاهر هذه الملاحظات بعيدا عن الموضوع، فإنني آمل في صبركم لعله يتضح أنها قريبة منه إن لم تكن في صميمه.
أولي الملاحظات: أننا لسنا أمام صراع حضارات متعددة متعارضة يمكن أن تتصادم أو تتصالح، لأن شواهد التطور التاريخي تومئ إلينا بأنها حضارة إنسانية واحدة، صب فيها الجميع ما زاد عندهم أوقات الفيض، وسحب منها الجميع ما لزمهم أوقات الجفاف، وساعدوا - كل في زمانه - علي ملء خزان هائل للحضارة الإنسانية أصبح شراكة طبيعية ورصيدا جماعيا متاحا بالحق لمن يريد ويستطيع.
ومن المفيد هنا أن نتذكر أنه مع اتساع الأرض واتصال التاريخ - فإن كافة الشعوب والأمم قدمت ما راكمته من ثقافات البيئة والمعرفة والتجربة - وعن طريق الانتقال الحر للمنافع - إضافات سخية ومستمرة وتلقائية - إلي المشترك البشري الجامع.
ذلك حدث حالة التأمل والفلسفة بحثا عن الحق والحقيقة - حالة كشف العقل حين تعرف الناس في الفجر الإنساني الأول علي ملكات التصور، وتوصلوا إلي سر الحرف في الأبجدية وسحر الرقم في العدد - حالة التنبه إلي معجزة الزراعة - حالة صناعة الأدوات والمعدات - حالة فنون المعمار - حالة فتح الطرق واستئناس وسائل المواصلات - حالة صنع السفن وركوب البحار - حالة النظر إلي الفلك ومسارات النجوم، إلي آخره.
في هذه الحالات وغيرها فإن الثقافات الطالعة في كل مكان شقت جداول وينابيع محلية، فاضت علي جوارها عندما تبين هذا الجوار نفعها، ثم التقت هذه الجداول والينابيع لتكوِّن ما يمكن أن نسميه مجمع ثقافات أو أحواض حضارة بعضها يكاد يكون مرسوما محددا كخط بالقلم ومثاله الأظهر حوض البحر الأبيض - ثم إن الأحواض الحضارية في كل إقليم من أقاليم الدنيا امتلأت وفاضت، وتمددت واتصلت بحيث بسطت محيطا واسعا لحضارة إنسانية قابلة للانتشار، قادرة علي العطاء، عابرة للزمان والمكان.
وعلي امتداد عملية التفاعل بين الثقافات وهي تتدفق من مواقعها الأولية وأحواضها الأوسع إلي المحيط الكبير، وما بين الصب والسحب من الرصيد المشترك للحضارة الإنسانية فإن الحوض الحضاري للبحر الأبيض تحركت عليه تيارات تتبدي وكأنها خريطة مناخية حية موصولة بين معابد وقصور بابل ومنف إلي أروقة وأعمدة أثينا - إلي مكتبة الإسكندرية، إلي دار الحكمة في بغداد - إلي دمشق - إلي قرطبة، ثم عبر صقلية نحو جنوب أوروبا - إلي إيطاليا - ثم إلي الشمال نحو ألمانيا وفرنسا وبريطانيا،
ثم يتجه الخط عابرا للأطلسي إلي أمريكا ينفذ من الشاطئ إلي الشاطئ في اتجاه الباسيفيك، ليعود فيطل علي شرق آسيا، فإذا الحيوية المتجددة لفيض البحر الأبيض عبر الأطلنطي - تجتاز المحيط الهادي لكي تلتقي هناك بالحوض العميق للحضارة الصينية.
لقد تصادف هذا الصيف أنني وقفت أمام مكتبة الإسكندرية التي أعيد بناؤها، ثم كنت بعد أيام عند سفح "الأكروبول"، ثم صعدت سلم كنيسة القديس «بطرس» في الفاتيكان، ثم تجولت متأملا معالم النهضة ومقتنيات القصور في «فلورنسا»، ثم مشيت فوق جسور ينيسيا نحو ميدان القديس «مرقس»، وعند هذه المواقع ومشاهدها ملأت خواطري عبارة كتبها الأستاذ Stefano Carboni أمين متحف «المتربوليتان» في نيويورك قال فيها: «إن حوض البحر الأبيض المتوسط حدود سائلة!
Liquid Frontiers"، وذلك وصف دقيق لحركة
الثقافات في صنع أحواض حضارية، ثم فيضان هذه الأحواض لتصنع محيطا حضاريا عالميا وإنسانيا واحدا، وربما أننا إذا عدنا لحظة إلي مجال السياسة نتذكر أن هذا المحيط الإنساني ينسب - ولو من باب المجاز - في كل عصر إلي القوة الغالبة فيه: فهو فرعوني في عصر - إغريقي في عصر ثان - روماني في عصر ثالث - مسيحي في عصر رابع - إسلامي في عصر خامس - أوروبي في عصر سادس - أمريكي هذه اللحظة العابرة!
ومع تعدد اللغات في حالة الثقافات، فإن الحضارة لها لغة رئيسية في كل آن - هي لغة القوة الغالبة في زمانها، فهذه اللغة الرئيسية نطقت يونانية لحظة - لاتينية لحظة أخري - عربية بعد ذلك - ثم فرنسية أو إنجليزية في هذا الزمان - وقد تصبح نبرة أخري غدا أو بعد غد!
وعلي تقلب العصور فإن غلبة القوة لا يصح أن تُنسينا شراكة الرصيد الإنساني لمحيط الحضارة - فوق أي إمبراطورية - أو لغة!
أنتقل إلي ملاحظة ثانية ملخصها أنه قبل سنوات قليلة وقع استغلال فجيعة إنسانية محزنة ضربت مدينة نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، وبهذا الاستغلال تحولت الفجيعة إلي عملية تلاعب مقصود بالصور وبأسلوب خداع البصر،
فإذا العالم يفاجأ بأن صورة المسلم - عربيا وغير عربي - قد أزيحت لتحل محلها صورة المتعصب الإرهابي، ثم تضافرت عناصر من عوالم القرار والأفكار والحوار تحت ضغوط المصالح المتصارعة بقصد ترسيخ هذا التلاعب بالصور وخداع البصر، إلي حد إعادة كتابة قصة الإرهاب في التاريخ، فإذا الشمال بريء منه، وإذا الشرق الأقصي بعيد عنه، وإذا الدين الإسلامي وحده مرادف للانتحار والقتل في المخيلة العامة الشائعة في الشمال.
نلاحظ أن رمزا دينيا له مقامه هو بابا الفاتيكان «بنديكتوس السادس عشر» وقف يتحدث عن الإسلام وعن الحضارة في جامعة ألمانية، فإذا هو يلحق «التمدن» بالشمال، والهمجية بالجنوب الإسلامي، ويقرر ولو بالتلميح أن الفارق بين العالمين: «أن الغرب أخذ من المسيحية ثم من الفلسفة اليونانية ما يميزه عن غيره في إعلاء قيمة الإنسان»،
وكان أمل كثيرين ورجاؤهم لو تذكر خليفة «بطرس الرسول» أن المسيحية كلها غيث نزل علي الشرق وفاض علي الغرب رسالة وحكمة - حواريين وقديسين - قصصا وتعاليم - صلوات وترانيم، كما أن السيد «المسيح» نفسه من مواليد «الناصرة»، والقديس «بطرس» - الذي يقوم الفاتيكان علي رفاته من أبناء القدس - كلاهما من الشرق، وأن القديس «مرقس» الذي تقوم كنيسته بمعمارها المتميز علي أجمل ميادين أوروبا «سان ماركو» مولود في أقاصي صعيد مصر،
وكان مدفنه في الإسكندرية، ومنها أخذ رفاته (ولا أقول سُرق) في القرن التاسع إلي «ينيسيا» - وذلك رغم أن كبار فناني النهضة جنحوا إلي تصوير هؤلاء الرسل والقديسين والحواريين معظم الوقت أصحاب بشرة بيضاء وعيون زرقاء وشعر ذهب.
هذا عن التأثر بالمسيحية في شأن تمدن الشمال أو تمدن الغرب.
وأما عن نفحة الفلسفة الإغريقية، فليس هناك من لا يعرف أن الفلسفة الإغريقية لها مقدمات سبقتها وجوار مشرقي أحاط بها وانساب إليها، ثم إن الفلسفة الإغريقية ضاعت من أوروبا في ظلام القرون الوسطي، بينما كان الجنوب الإسلامي في حالة انتعاش وتدفق ثقافي،
وضمن تفاعلات هذا الانتعاش والتدفق فإن الفلسفة الإغريقية عادت إلي أوروبا عن طريق فلاسفة الأندلس العرب، وعلي رأسهم الفيلسوف المسلم الأشهر «محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي»، ولم يكن «ابن رشد» وغيره من فلاسفة الإسلام مجرد وسطاء أو ناقلين، وإنما كانوا مجددين زادوا بالدرس، وتوسعوا وأحاطوا.
هي إذن حدود سائلة علي حد وصف أستاذ متحف "المتربوليتان" الحكيم.

حضرات السيدات والسادة
بقيت ملاحظة ثالثة أتمني أن ألمسها في رفق.
إنني توسعت كثيرا في حديث التاريخ، بينما حديثنا عن الصحافة، وظني أن هناك صلة من نوع ما بين الاثنين، معقدها أن الشرق المسلم ومعه مسيحيوه يدفع الضرائب مرتين:
الأولي - لأن حركة التقدم العالمي بسبب ثورة العلوم والتكنولوچيا لم تعطه حتي الآن فرصة لالتقاط الأنفاس، يمسك لحظتها بالعصر ويواصل معه، وفي حين أن الشرق البودي نجح - أحيانا - في الإمساك باللحظة، فإن الشرق الإسلامي ومعه مسيحيوه تعذر عليهم اللحاق لأسباب معقدة ليس هذا مجالها.
والثانية - وهي التي تعنيني لاتصالها بموضوع الإعلام، وملخصها أن الشرق المسلم يعاني من أن الأقلام والأضواء والعدسات كلها توجهت وتركزت عليه، بينما هو يعاني المرحلة الأصعب في الانتقال من قديم إلي جديد، ومن تأخر إلي سبق، ومن عتمة إلي نور.
وبالطبع فإنكم تتذكرون أن ولادة الجديد عندكم جرت وراء ستار، وأما في عالمنا فإنها جارية في منتصف النهار، وكذلك كان الجديد عندنا حملا ومخاضا وميلادا عاريا تحت الوهج وعلي مرأي ومسمع من عالم يتابع ما يجري، متجاهلا حقيقة أن الحمل والمخاض وولادة الجديد ـ حتي وإن كانت مؤلمة عندكم كما هي عندنا ـ فإن الفارق أنها جرت عندكم مكتومة لتظهر بعدها في كتب التاريخ بأثر رجعي، لكنها عندنا جرت علي الهواء مباشرة فبدت وكأنها فضائح بالصورة والصوت واللون.
حضرات السيدات والسادة
لقد كنتم محظوظين في اجتياز الجسور من التخلف إلي التقدم - ولم يكن لدينا مع الأسف هذا الحظ أو بعضه.
ويسأل بعض زملائنا هنا في الشمال: وماذا نفعل؟ - وأليست تلك طبيعة عصر السرعة؟ والتساؤل صحيح - والرد عليه بأمانة: أن الإعلام في الغرب ليس مطالبا - بالتأكيد - وهو يغطي الشأن الجاري في الجنوب بأن يستعيد السجلات كل مرة - لكن المرادف المعنوي لتعذر الاستعادة هو استذكار درجة من ثقافة الإدراك والتعاطف والموضوعية.
دعوني أقل إنه ليس من باب التعسف أن نسأل: ماذا لو أن الصحافة الحديثة وضمنها وكالات أنباء مثل: «رويترز» أو مؤسسات مثل A.B.C، وC.B.S، وN.B.C، والجزيرة، وSKY، وFOX، وC.N.N، كانت حاضرة زمن حروب الأباطرة والملوك - والكرادلة والعلماء - والمذاهب والطوائف - والقوميات والطبقات - والإمبراطوريات والتحديات الإمبراطورية لها في أوروبا؟!
ماذا علي سبيل المثال لو كانت هذه الصحافة الحديثة حاضرة أيام مذبحة «سان بارتولميو» - مثلا - حين جري ذبح مئات الألوف من «الهوجونوت» الفرنسيين علي أيدي مواطنيهم من الكاثوليك، بتحريض كرادلة ونبلاء؟!
وماذا لو كانت هذه الصحافة الحديثة حاضرة في ميدان «الكونكورد» حيث كانت مقصلة الثورة الفرنسية تدور وتقطع رؤوس الملوك والأمراء والسياسيين والمفكرين كل يوم من الصباح إلي منتصف الليل؟! - أو لو عبرت البحر إلي برج لندن، تنقل ما يجري وراء أسواره للإخوة من النبلاء والمحظيات وأولياء العهود من مآس وأهوال؟!
وماذا لو كان هناك بث علي الهواء مباشرة لوقائع الحرب الأهلية الأمريكية، حين قتل فيها الأخ أخاه، وانتهك عرضه، وحرق زرعه واستباح مدنه وقراه في أطول مجزرة عاشتها أمريكا، وأغزر شلال دم تدفق في العالم الجديد؟!
وماذا لو كان البث المباشر نفسه حاضرا ينقل علي الهواء مباشرة مشاهد بعض أو أشد الأعمال ظلما في تاريخ الإنسانية؟! - تلك التي كان الشمال لسوء الحظ فاعلها، من ظاهرة الاستعمار إلي ظاهرة العبودية - وإلي ظواهر أخري متوالية في قلب القرن العشرين، وضمنها الستالينية والفاشية والنازية، ومعاداة السامية، ومحارق الهولوكوست التي طالت اليهود وغيرهم من الأجناس والأعراق.
وماذا لو أن هذه الوسائل كانت حاضرة وعلي الهواء مباشرة تنقل الحرب الأهلية في إسبانيا، وتنقل فظائع «جويرنيكا» و«فالينسيا» و«توليدو»، بدلا من أن تعتمد في وصفها علي لمحات من كتابات فنانين وساسة من وزن «بابلو بيكاسو» و«أرنست همنجواي» و«أندريه مالرو» و«هيو توماس»؟!
تذكرون أن وسائل الإعلام الحديث لم تلحق إلا قرب النهاية بأهوال الحرب العالمية الأولي، وإلي حد محدود بالحرب العالمية الثانية، ونعرف بالطبع أن هاتين الحربين العالميتين كانتا صراعا بين قوي الشمال ذاتها، لكن الأطراف المتحاربة نقلت ميادين القتال إلي جميع القارات وفرضتها علي كل الأمم والشعوب،
وكانت الحصيلة الإنسانية ما بين ستين وسبعين مليونا من القتلي، وما بين مائة وخمسين إلي مائة وسبعين مليونا من الجرحي في الحربين معا، وعندما جاء المشهد الأخير في الحرب العالمية الثانية ووقع استعمال السلاح النووي،
فإنه لم يكن هناك نقل مباشر علي الهواء، وعلي أي حال فقد اكتفينا جميعا بسماع أصداء المأساة قائلين في نَفَس واحد شمالا وجنوبا: لن يتكرر ذلك مرة أخري، ومع ذلك ورغم هذا التعهد الإنساني الجامع فإنه عندما نشبت المعارك في أفغانستان والعراق، لم تتورع القوات الأمريكية عن استعمال أنواع من أسلحة «اليورانيوم» المستنفذ، وتلك درجة من الاستهتار - بالوعد وبالإنسان - يصعب اغتفارها.
حضرات السيدات والسادة
تلاحظون أنني أطلت الحديث فيما جري عندكم، وكنت في ذلك عامدا حتي تبين الصورة أمامكم، ومع أن ذلك إلحاحا، أعتذر عن طوله ولا أعتذر عن مقصده، فمن الإنصاف أن نتمثل وجها آخر للحقيقة وهذا هو الحال دائما، فإلي جانب ما عرضت لطرف منه - وكان يمكن أن أمضي في قوائمه إلي ما لا نهاية - فإن هناك فضلا يصعب إنكاره مبدئيا علي صحافة الشمال،
أوله ودون تحفظ، أن بعض قضايانا توجهت إليها لمحات مضيئة لضمائر يقظي قاومت ضغوطا وتهديدات نعرف مدي خطرها ونقدر درجة نفاذها إلي دوائر صنع القرار والأفكار والحوار.
وعلي سبيل المثال فإنه رغم سطوة أصدقاء إسرائيل فإن بعضا من الحقيقة ظهر وبان عن قضية الشعب الفلسطيني الذي اقتلع من أرضه وأزيح إلي معسكرات وجيتوات مقهورة يائسة - ثم إنه رغم سلطان ما سُمي جماعة المحافظين الجُدد ومعهم مجموعة المستشرقين الجدد - فإن حقيقة ما جري في العراق تكشفت ابتداءً من غزو وطن عربي وتمزيقه بغرور وجهالة القوة وبذرائع مختلقة - كما أننا عرفنا أن الشعب العراقي فَقَدَ نصف مليون مواطن قتلوا،
وثلاثة ملايين خرجوا لاجئين من وطنهم، بعضهم داخله في العراق، وأكثرهم في المنافي خارجه، ثم إننا بفضل تلك الضمائر اليقظي في الشمال عرفنا ما جري في معاقل القهر من «جوانتانامو» - إلي «أبوغريب» - إلي الفالوجة - إلي البصرة - إلي الموصل.
إن تلك الضمائر الحية في صحافة الشمال هي التي كشفت كثيرين من هؤلاء الذين قدموا خططا سياسية، والذين قدموا فتاوي علمية في خدمة مشروع أخذه ما يعتري الإمبراطورية من حماقة القوة، وتجاهل ما تراكمه الإمبراطورية من حكمة الخبرة، ليثبت أن مشروعه هو الأقصر عمرا في تاريخ الإمبراطوريات، لأنه الأقصر نظرا بينها!
إننا وأهم من ذلك كله في تجربة الصب والسحب من الرصيد الإنساني المشترك في المحيط العالمي الأوسع، أخذنا هذا العلم البديع الذي قام هذا المعهد ليخدم أهدافه وهو: الصحافة مكتوبة مسموعة مرئية، ولا أتجاوز إذا قلت إنه أدي دورا هائلا في حياة عالمنا.
إنكم بالطبع سبقتم وطورتم، مستعينين باختراقات التكنولوچيا، حتي أصبح الإعلام العابر لمسافات الكون، أبرز ظواهر العصر وأقوي محركاته.

حضرات السيدات والسادة
علي أن طبائع مراحل التطور كما تفتح باستمرار، تقيد أحيانا فتضع حدودا لما يمكن أن يأخذه الناس عن غيرهم، بل يتحتم عليهم أن يصنعوه في تجربتهم بآلامهم، لأن هناك مجالات يستحيل فيها اختصار المعاناة بالنقل أو بالمحاكاة، تجنبا لإعادة اختراع العجلة من جديد.
وأول هذه المجالات هو مجال الحرية ليس بمعناها الشاعري وإنما باعتبارها توجها إلي نظم دستورية وقانونية مضمونة بعقد اجتماعي وسياسي يفرض احترام الحقوق، وبحيث يستطيع أي مواطن حر أن يمارس مسؤولية المواطنة.
إن تجارب الحرية يصعب نقلها ويصعب انتشارها، وتعميمها بالحركة الطبيعية الذاتية لعملية التطور، بل يتحتم صناعتها من البداية إلي مقصودها، أو صيانة هذا المقصود والدفاع عنه، لأن العصور لا تتماثل - والأحوال لكل أحكامها.
فعبر القرن العشرين - بالذات - تحددت القواعد والأصول عندكم، وأصبح ممكنا إرساء أصول وترسيخ بناء، وذلك لم يحدث بعد عندنا في الجنوب، حيث مازالت الحدود مضطربة، ومازالت القواعد واهية، لأن الصراع من أجل التنوير والحرية والتقدم يتخبط محتدما وتحت ظروف عصية.
بينها أن هذه المعركة في الجنوب تختزل في لحظة زمنية راهنة معارك، واجهت الشمال متتالية، فهناك تعاقبت وتوالت عصور التغيير: الحرية والتنوير - الصناعة والتجارة - العدل الاجتماعي - المواصلات والاتصالات - الإنترنت وعالم النشر الإلكتروني - لكنه عندنا تزاحم ذلك كله مع تباين الخلفيات والرؤي والضرورات.
وبينها أن تداخل العصور أحدث ضغوطا ومؤثرات حادة، قومية ودينية وطائفية ومذهبية أدت إلي خلط بين الأولويات، وإلي شطط في الوسائل قاد أحيانا إلي مجاهل تاهت بعيدا بالمقاصد.
وبينها أن المناخ الذي يحيط بعملية ولادة تجري علي الهواء مباشرة، علي قارعة الطريق وفي منتصف النهار يصيب جميع الأطراف بكل الأعراض التي تصاحب الانكشاف، ومنها الاضطراب والادعاء والإخفاء والتعمية.
وبينها أن نظم الحكم القائمة عجزت عن أن تؤسس لنفسها شرعية دستورية أو قانونية، ولم تعد سلطتها اختيارا وتفويضا وإنما إملاء وقمع، تعطلت إزاءه دواعي الرشد السياسي والاجتماعي وإدارة الأزمات، وذلك ساعد علي الإساءة لمشهد التطور عندنا وإساءة إلي صورته.
ومع أنني أتردد كثيرا قبل أن أضيف أي مسؤولية إلي حساب غير المعنيين في الأصل بها، فلابد من القول - ودون حرج - إن العنصر الخارجي يلعب دورا شديد السلبية في منطقتنا من الجنوب - بالتحديد الشرق الأوسط.
فهناك في قلب هذه المنطقة ثلاثة دواعٍ للخطر أشير إليها باقتضاب لكي أتجنب تكرارا شائعا ومملا رغم صحته، وهي بالترتيب: الموقع الاستراتيچي - وأهمية البترول حتي يظهر بديل له - وإسرائيل.
وهنا فمن الحق أن أضيف أن التفاعل بين عوار الشرعية الذي أصاب الدولة العربية الراهنة - مع ضغوط التطور في الداخل علي النظم - مع دواعي الخطر من العناصر الخارجية - كل ذلك أدي إلي فجوات واسعة سمحت بالتدخل الدولي في الشأن الداخلي للمنطقة، علي أنه لسوء الحظ أن بعض النفاذ الخارجي إلي المنطقة لم يكن دائما ضيفا ثقيلا دعا نفسه، وإنما وصل مدعوا مرغوبا فيه لمناورات السياسة الداخلية وتوازناتها المتصورة أو المتوهمة!

حضرات السيدات والسادة
إذا كنت قد وجهت بعض الملاحظات وفي لهجتها نبرة حدة، فإنني لم آت إلي هنا مكابرا ولا معايرا.
وإذا كنت في الملاحظات نفسها قد اعترفت بالتقدير لضمائر حية أدت أمانتها عندكم، فإنني لم آت إلي هنا مادحا أو مهنئا.
وإذا كنت أخيرا قد لمست جانبا من الأوضاع الراهنة في أحوالنا، فإنني لم آت إلي هنا شاكيا أو محرضا.
لقد جئت إلي هنا لداعٍ رئيسي هو أن أطل علي مشهد المحيط الحضاري الإنساني، قريبا من شاطئ المهنة التي تعنيكم وتعنينا - وجئت وورائي مؤسسة تحمل بمحض المصادفات اسمي، شاغلها خدمة الكفاءة المهنية لشباب الصحفيين العرب.
وقصاري ما أريده وذلك قصدي وهدفي، لا يخرج عن المشاركة معكم في بناء جسر علي موقع من مواقع الحضارة الإنسانية الواحدة التي صبت فيه كل الأمم ما تجمع لديها من نتاج ثقافاتها مما يكون صالحا للجميع، وحقا للجميع، لأنه ملك الجميع.
وشكرا لكم
30/10/2007 المصرى اليوم

No comments: