ربما يستطيع المثقفون أن يشيروا للحائرين على طريق السلام، غير أنهم عاجزون عن صنعه، والحكومات الموحدة فقط هي القادرة على تعبيد طريق السلام والسير عليه بقوة واتزان، ومثل كل أنواع الطرق البطيئة والسريعة على وجه الأرض توجد محطة قيام، هذه المحطة ليس لها وجود خارج عقل الإنسان.
من العبث أن تسأل الآخرين عن طريق السلام إذا لم تكن أنت فى حالة سلام مع نفسك. إذا لم تنبع من قلبك الرغبة فى السلام فلن تجد إلى الأبد طريقا يوصلك إليه، وسيكون من الأنسب لك الانضمام لجماعة المقاتلين بغير حدود وبغير قضية. لذلك سنجد أنه من المستحيل على فقراء النفس والفكر دخول سوق السلام لعجزهم عن المساهمة فيه بنصيب. من الطبيعى أن تحارب السلام كفعل وفكرة إلى الأبد طالما كنت أنت عاجزا عن المساهمة فى صنعه.
وثقافة السلام ليست هى النقيض لثقافة الحرب، فطريق الثقافة طوله آلاف الأعوام من الأفكار الإيجابية بينما الحرب ليست فى حاجة إلا إلى إيقاظ وتفعيل غريزة العدوان داخل البشر بعد تعبئة سريعة للشارع بانفعالات الخوف من العدو وحشوهم بالرغبة العاطفية فى القضاء عليه، ثقافة السلام هى نفسها ثقافة البشر العامة التي وصلوا إليها فكرة بعد الأخرى فى مشوار دام طويل معبد بالجهل والخرافة، وما لم تترتب على حالة السلام زيادة في فرص العمل وتنمية أحوال البشر، فمن الصعب الاعتراف بوجوده. وبذلك يكون الوجه المقابل لثقافة السلام، ثقافة أخرى تنبه كاتب هذه السطور إلى وجودها منذ أعوام طويلة وهي ثقافة الموت. والموت ليس وقفا على البشر، فالأرض تموت عندما تعجز عن الإثمار، والأنهار تموت عندما يصب الناس فيها فضلاتهم، والمصانع تموت عندما تعجز عن المنافسة، والحب ذاته يموت عندما يفقد العشاق الرغبة في رعايته، بل إن الحياة نفسها تموت عندما لا يشعر البشر بأنها معجزة في حد ذاتها عليهم ألا يفوتوا فرصة الاستمتاع بها، ذلك الاستمتاع الذي من المستحيل أن يتحقق في غياب إنجاز نساهم به في الحضارة البشرية. لذلك ستلاحظ أن فلاسفة ثقافة الموت ومريديها بدافع من عجزهم عن المساهمة في هذه الحضارة، سيعملون بدأب على تدميرها.
قلنا إن ثقافة السلام هي نفسها ثقافة الإنسان العامة، هكذا يكون كل ما اكتسبه الإنسان من معرفة وقدرة على الالتزام بالمبادئ والمثل العليا، كل ما توصل إليه من رقي في انفعالاته وعواطفه، كل ما توصل إليه من نبل، واعتزاز بعاطفة اعتبار الذات، هي جميعا من مكونات ثقافة السلام.
يخدعك من يحدثك عن الحرية والديموقراطية والتنمية وحقوق الإنسان الفرد ووحدة الدولة وقوتها بغير أن يكون مؤمنا بالسلام. لذلك ستكتشف بسهولة أن الخطوات التي قطعتها مصر على طريق الحرية الاقتصادية والسياسية واكبتها في الوقت نفسه أو لحقت بها خطوات تحققت على طريق السلام بين مصر وإسرائيل وعبرت عن نفسها في مشاريع اقتصادية مشتركة. لذلك ستجد أن جماعة المحاربين بغير حدود وبغير قضية يركزون في هجومهم على السلام كفكرة واتفاقية، غير أنه من المستحيل أن تقرأ لهم هجوما أو تحريضا على مشروع بعينه من تلك المشاريع التي تحققت على الأرض، والسبب في ذلك في تصوري أنهم هم أيضا رسموا في ضمائرهم خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه وهو أرزاق المصريين وفرص عملهم.
أمر غريب ألا يتنبه بعض الناس إلى أن إشاعة الكراهية ضد السلام المصري ـ الإسرائيلى سلاح ذو حدين، الأول موجه إلى الآخر، والثاني موجه إلى الذات. من المستحيل أن تكره الآخر بغير أن يتسرب مقدار من طاقة الكراهية إلى قلبك وعقلك. والكراهية عاطفة غريبة، هي تتزايد وتتوالد تلقائيا ثم تتحول بالتدريج إلى رعب من الدنيا ومن الآخرين يتولد عنه إحساس بالعجز والضآلة لا يمكن التوافق معه إلا بالمزيد من العزلة والعجز عن الفعل.
والسلام ليس ساحة سندسية خضراء تحدها أسوار من الورود والرياحين، بل هو ساحة قاسية للتنافس، والإحساس بالغيرة الطبيعية الدافعة للسير إلى الأمام، هو تلك الرغبة النبيلة في المضارعة، أي اللجوء للفعل المضارع وليس للفعل الماضي من أجل صنع المستقبل. عندما تعجز عن صنع إنجاز تنافس به أفعال الآخرين، فتفضل وخذ مكانك في صفوف العالم الخلفية أو اخرج من مبنى العرض الحياتي إلى الشارع فربما تجد مكانا لك على رصيفه.
منذ سنوات، كانت توجد في القاهرة جماعة للسلام، وقبل أن يحدث لقاؤنا الأول بالمثقفين الإسرائيليين حرص بعض الزملاء على القول بأن ما نقوم به ليس تطبيعا.. بل هو حوار.
وكان ردي على زملائي هو: جميل.. حسنا.. لنفرض أننا قررنا أن تكون علاقتنا طبيعية مع نظرائنا في إسرائيل.. ماذا سنقدم لهم أكثر من الحوار..؟ يا جماعة.. عندما نقول للناس إن ما نفعله ليس تطبيعا.. وإنه حوار فقط فستكون النتيجة أن نشتم مرتين، مرة بوصفنا بتوع تطبيع والثانية لأننا نفتقر إلى الشجاعة لإعلان ذلك.
الواقع أن عفريت التطبيع تم تحضيره منذ ربع قرن تقريبا بواسطة مجلس إدارة النقابات الفنية في مصر، ربما كانت الظروف وقتها تحتم إصدار هذا القرار، فقد كانت اتفاقية السلام تنص على قيام علاقات طبيعية بين مصر وإسرائيل عند انسحاب القوات الإسرائيلية إلى خط العريش راس محمد، وكان خصوم الاتفاقية يشيعون وخاصة بعد اغتيال الرئيس السادات أن إسرائيل ستكتفي بهذا الانسحاب وإنها لن تنسحب إلى حدود مصر الدولية لأنه عمليا لا يوجد ما يرغمها على ذلك.
فصدر هذا القرار من النقابات الفنية الثلاث لأن إسرائيل كانت فى ذلك الوقت تتحدث كثيرا عن التعاون في مجال الفنون. القرار لم يتحدث عن علاقات طبيعية أو غير طبيعية بل عن (عدم التعاون فنيا مع إسرائيل) كانت هذه هي المناسبة الأولى التى ظهر فيها عفريت التطبيع، لينتقل بعدها إلى كل النقابات والعقول.
أعتقد أن من المهم أن نعمل على تدريب أنفسنا وتدريب الناس على أن تتقبل عقولنا الحقائق على ما هي عليه وليس كما تتمناه، وأن مصالح البشر أكثر قداسة من أي شيء آخر، وأن الجهل والابتزاز والبطولات المجانية لن تفلح في حل مشاكل شعوب المنطقة الاقتصادية والاجتماعية، وأن الكلمات يجب أن تعني ما تعنيه بالفعل، وأن العرب عندما يقدمون السلام لإسرائيل في مقابل إنهاء الاحتلال للمنطقة العربية وإقامة دولة فلسطينية، فإنهم يعنون منطوق هذه الكلمات بالفعل كما تعرفه قواميس لغات العالم، وعلى المثقفين المؤمنين بذلك أن يكونوا على يقين أن هذا هو مجرى التاريخ، وأن يتصدوا بقوة ووضوح لكل محاولات ابتزازهم وتخويفهم بعفريت التطبيع. يجب ألا يتسرب إليهم الإحساس بأننا نصنع السلام لأننا مرغمون عليه، فواقع الأمر أننا لسنا كذلك، بل نحن نعمل من أجل السلام لأنه وحده الفكرة الصحيحة فلسفيا وسياسيا لحل الجزء الأكبر من مشاكلنا. أعرف أنها مهمة شاقة بعد أعوام طويلة من تسميم عقول الناس بإعلام الحرب، غير أنها ليست مستحيلة
وثقافة السلام ليست هى النقيض لثقافة الحرب، فطريق الثقافة طوله آلاف الأعوام من الأفكار الإيجابية بينما الحرب ليست فى حاجة إلا إلى إيقاظ وتفعيل غريزة العدوان داخل البشر بعد تعبئة سريعة للشارع بانفعالات الخوف من العدو وحشوهم بالرغبة العاطفية فى القضاء عليه، ثقافة السلام هى نفسها ثقافة البشر العامة التي وصلوا إليها فكرة بعد الأخرى فى مشوار دام طويل معبد بالجهل والخرافة، وما لم تترتب على حالة السلام زيادة في فرص العمل وتنمية أحوال البشر، فمن الصعب الاعتراف بوجوده. وبذلك يكون الوجه المقابل لثقافة السلام، ثقافة أخرى تنبه كاتب هذه السطور إلى وجودها منذ أعوام طويلة وهي ثقافة الموت. والموت ليس وقفا على البشر، فالأرض تموت عندما تعجز عن الإثمار، والأنهار تموت عندما يصب الناس فيها فضلاتهم، والمصانع تموت عندما تعجز عن المنافسة، والحب ذاته يموت عندما يفقد العشاق الرغبة في رعايته، بل إن الحياة نفسها تموت عندما لا يشعر البشر بأنها معجزة في حد ذاتها عليهم ألا يفوتوا فرصة الاستمتاع بها، ذلك الاستمتاع الذي من المستحيل أن يتحقق في غياب إنجاز نساهم به في الحضارة البشرية. لذلك ستلاحظ أن فلاسفة ثقافة الموت ومريديها بدافع من عجزهم عن المساهمة في هذه الحضارة، سيعملون بدأب على تدميرها.
قلنا إن ثقافة السلام هي نفسها ثقافة الإنسان العامة، هكذا يكون كل ما اكتسبه الإنسان من معرفة وقدرة على الالتزام بالمبادئ والمثل العليا، كل ما توصل إليه من رقي في انفعالاته وعواطفه، كل ما توصل إليه من نبل، واعتزاز بعاطفة اعتبار الذات، هي جميعا من مكونات ثقافة السلام.
يخدعك من يحدثك عن الحرية والديموقراطية والتنمية وحقوق الإنسان الفرد ووحدة الدولة وقوتها بغير أن يكون مؤمنا بالسلام. لذلك ستكتشف بسهولة أن الخطوات التي قطعتها مصر على طريق الحرية الاقتصادية والسياسية واكبتها في الوقت نفسه أو لحقت بها خطوات تحققت على طريق السلام بين مصر وإسرائيل وعبرت عن نفسها في مشاريع اقتصادية مشتركة. لذلك ستجد أن جماعة المحاربين بغير حدود وبغير قضية يركزون في هجومهم على السلام كفكرة واتفاقية، غير أنه من المستحيل أن تقرأ لهم هجوما أو تحريضا على مشروع بعينه من تلك المشاريع التي تحققت على الأرض، والسبب في ذلك في تصوري أنهم هم أيضا رسموا في ضمائرهم خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه وهو أرزاق المصريين وفرص عملهم.
أمر غريب ألا يتنبه بعض الناس إلى أن إشاعة الكراهية ضد السلام المصري ـ الإسرائيلى سلاح ذو حدين، الأول موجه إلى الآخر، والثاني موجه إلى الذات. من المستحيل أن تكره الآخر بغير أن يتسرب مقدار من طاقة الكراهية إلى قلبك وعقلك. والكراهية عاطفة غريبة، هي تتزايد وتتوالد تلقائيا ثم تتحول بالتدريج إلى رعب من الدنيا ومن الآخرين يتولد عنه إحساس بالعجز والضآلة لا يمكن التوافق معه إلا بالمزيد من العزلة والعجز عن الفعل.
والسلام ليس ساحة سندسية خضراء تحدها أسوار من الورود والرياحين، بل هو ساحة قاسية للتنافس، والإحساس بالغيرة الطبيعية الدافعة للسير إلى الأمام، هو تلك الرغبة النبيلة في المضارعة، أي اللجوء للفعل المضارع وليس للفعل الماضي من أجل صنع المستقبل. عندما تعجز عن صنع إنجاز تنافس به أفعال الآخرين، فتفضل وخذ مكانك في صفوف العالم الخلفية أو اخرج من مبنى العرض الحياتي إلى الشارع فربما تجد مكانا لك على رصيفه.
منذ سنوات، كانت توجد في القاهرة جماعة للسلام، وقبل أن يحدث لقاؤنا الأول بالمثقفين الإسرائيليين حرص بعض الزملاء على القول بأن ما نقوم به ليس تطبيعا.. بل هو حوار.
وكان ردي على زملائي هو: جميل.. حسنا.. لنفرض أننا قررنا أن تكون علاقتنا طبيعية مع نظرائنا في إسرائيل.. ماذا سنقدم لهم أكثر من الحوار..؟ يا جماعة.. عندما نقول للناس إن ما نفعله ليس تطبيعا.. وإنه حوار فقط فستكون النتيجة أن نشتم مرتين، مرة بوصفنا بتوع تطبيع والثانية لأننا نفتقر إلى الشجاعة لإعلان ذلك.
الواقع أن عفريت التطبيع تم تحضيره منذ ربع قرن تقريبا بواسطة مجلس إدارة النقابات الفنية في مصر، ربما كانت الظروف وقتها تحتم إصدار هذا القرار، فقد كانت اتفاقية السلام تنص على قيام علاقات طبيعية بين مصر وإسرائيل عند انسحاب القوات الإسرائيلية إلى خط العريش راس محمد، وكان خصوم الاتفاقية يشيعون وخاصة بعد اغتيال الرئيس السادات أن إسرائيل ستكتفي بهذا الانسحاب وإنها لن تنسحب إلى حدود مصر الدولية لأنه عمليا لا يوجد ما يرغمها على ذلك.
فصدر هذا القرار من النقابات الفنية الثلاث لأن إسرائيل كانت فى ذلك الوقت تتحدث كثيرا عن التعاون في مجال الفنون. القرار لم يتحدث عن علاقات طبيعية أو غير طبيعية بل عن (عدم التعاون فنيا مع إسرائيل) كانت هذه هي المناسبة الأولى التى ظهر فيها عفريت التطبيع، لينتقل بعدها إلى كل النقابات والعقول.
أعتقد أن من المهم أن نعمل على تدريب أنفسنا وتدريب الناس على أن تتقبل عقولنا الحقائق على ما هي عليه وليس كما تتمناه، وأن مصالح البشر أكثر قداسة من أي شيء آخر، وأن الجهل والابتزاز والبطولات المجانية لن تفلح في حل مشاكل شعوب المنطقة الاقتصادية والاجتماعية، وأن الكلمات يجب أن تعني ما تعنيه بالفعل، وأن العرب عندما يقدمون السلام لإسرائيل في مقابل إنهاء الاحتلال للمنطقة العربية وإقامة دولة فلسطينية، فإنهم يعنون منطوق هذه الكلمات بالفعل كما تعرفه قواميس لغات العالم، وعلى المثقفين المؤمنين بذلك أن يكونوا على يقين أن هذا هو مجرى التاريخ، وأن يتصدوا بقوة ووضوح لكل محاولات ابتزازهم وتخويفهم بعفريت التطبيع. يجب ألا يتسرب إليهم الإحساس بأننا نصنع السلام لأننا مرغمون عليه، فواقع الأمر أننا لسنا كذلك، بل نحن نعمل من أجل السلام لأنه وحده الفكرة الصحيحة فلسفيا وسياسيا لحل الجزء الأكبر من مشاكلنا. أعرف أنها مهمة شاقة بعد أعوام طويلة من تسميم عقول الناس بإعلام الحرب، غير أنها ليست مستحيلة
علي سالم 1/7/2007
الشرق الأوسط
No comments:
Post a Comment