عن تجربتين مصريتين منفصلتين متصلتين
شهدت القاهرة قبل أيام حدثَين غير منفصلين، إلا ظاهرياً. الأول تاريخي، بالمعنى الحرفي للكلمة؛ وبطلته مهندسة الديكور الشابة، هند الحناوي. اما الحدث الثاني، فمع انه اتسم بصخب بالغ، لكنه عكس الاول: فهو خارج التاريخ، لو أُخذ التاريخ كمجرى يسبر الافق والاحتمالات، ولا يغلقها. وبطلته الممثلة الشابة حنان الترك
في الحدث الأول، التاريخي، يمكن القول ان فردا واحداً وقف في وجه ضغط الجماعة الهائل؛ وانتصر، وبالقانون. القصة مرة أخرى موجزة: زواج هند الحناوي العرفي، وحملها، ثم نكران الزاوج والابوة، ورفعها قضية نَسَب امام المحاكم . البطل المايسترو الذي اطلق ديناميكية القصة، هو والدها، الدكتور حمدي حناوي: وقفَ تماماً عكس ما يقفه الآباء العرب عادة في أحوال كهذه: لا سَتَّر او تَكَتّم، ولا ذبحَ «غسلا للعار». بل جاهر وتمسّك بحق حفيدته بالاسم، على غير ما هو معتاد
عامان في اروقة المحاكم. عامان من الصمود امام الادانات والسخرية الاعلامية، وبعضها سادي؛ ساهم فيها حتى المذيعون.. وقد صاروا هم ايضا يفْتون: أحدهم اطلق على هند، ومن أعلى منبر تلفزيوني رسمي، وقبل ان تلفط المحكمة حكمها النهائي، صفة «الزانية».. ساندته جوقة الدعاة التلفزيونية ومنظّرو الأسْلمة الجدد. كلهم لم يقصّروا في السعي الى كسر إرادة الاب وابنته بإسم فضيلة غائبة. الانجاز العلمي كان يتربّص بالعائلة الناكرة للأبوة، ويحمي الطفلة ابنة هند من الكذب المُباح. الأب المتنصّل من الابوة، «الفنان» احمد الفيشاوي، نجل فاروق الفيشاوي وسمية الالفي، نجم مستشيخ وشبه داعية، احتمى بكل ما قُدّر له لرفض الخضوع لفحص الدي إن آي (DNA). فكان الرفض واحدة من حيثيات الحكم النهائي. المستشار رجائي دبوسة اصدره، مثبِّتا ابوة احمد لإبنته من هند، وارفق حكمه بقصيدة لنزار قباني «حبلى».
الانتصار غير مسبوق؛ وكذلك المعركة التي خيضت من اجل إستحقاقه. الشجاعة، المثابرة، الثقافة، التفكير، الحكمة. كلها اعتمرها حمدي الحناوي، الاب، وأرشد هند الى طبيعة الاسلحة في معركة كهذه. ونالَ بالقانون حق حفيدته بالاسم والكرامة الاجتماعية. وذلك في مواجهة رأي عام كان يعلم منذ البداية أن غالبيته ضده
لماذا تكون واقعة حكم نسب الى اب متهرب كهذا واقعة تاريخية؟ لأن ابطالها استعانوا، ولأول مرة، بنتائج احد فروع العلم الحديث كشفاً لإنكار، كان يمكن ان يمر لولاها. حتى المحامون الازهريون ادخلوا الدي إن آي (DNA) في مرافعاتهم. والتاريخي في هذا السلاح الجبار ضد الكذب انه يرفع حيفاً عن الصادقين من الجنسين (فمن المنتظر ايضاً ان يكون هناك ايضا رجال مظلومون أبرياء من تهمة التسيّب الابوي، ولو قلّوا). الدي إن آي رفع الحجاب عن جزء من حقيقة العلاقة بين الجنسين، ومن دون رجعة ولا استئناف.
الواقعة تاريخية ايضاً لأنها تفتح الباب امام أربعة عشر ألف قضية نَسََب مرفوعة في المحاكم. والارجح انها سوف تشجع الصامتين والمترددين والمتسترين، وربما الذابحين... في حسم التظلّم ورفعه في وجه مجتمع يهرب من الحقيقة.
هناك نقطة وصل بين الحدث التاريخي، حدث هند الحناوي، والحدث الخارج عن التاريخ، أي تحجّب حنان الترك. في بداية القضية، عندما شرعت هند في اعلان المشكلة، حاول احد الدعاة التلفزيونيين، وهو الاب الروحي لأحمد الفيشاوي، ومرشده الى الطريق القويم، اقناع هند بالعدول عن المطالبة بالابوة، وبالإجهاض مقابل «كفارة» صوم وذبيحة
شيخ من نفس القماشة، من نفس الطينة، داعية وتلفزيوني، خالد حجازي، هو الذي اثر على حنان الترك، كما تردد هي وزوجها؛ فبدروسه الدينية المنتظمة جعلها تؤمن بأن «الذنب» الذي تشعر به لن ينزاح عن روحها إلا بارتدائها الحجاب. فكانت حنان الترك البطلة النقيض، الانتي بطلة، بسبب انجراف فرديتها نحو الخضوع التام لضغط الجماعة. فحنان الترك ابنة مجتمع تقرأ على اسوار احيائه الشعبية «الحجاب قبل الحساب»، تُحجّب فيه البنات وهن صغيرات، قبل الموعد الاصلي الذي حدّده الفقهاء. تكفَّر فيه السافرات، ولا إعفاء لهن من التحرّش والتأنيب الشديد احيانا.. على قارعة الطريق وفي الازقة المزدحمة. حنان الترك نفسها من بيئة مغلقة: سلفتها، زوجة شقيق زوجها، وكذلك زوجة اخيها، منقّبتان. وفوق ذلك تلقّفتها شبكة الفنانات التائبات المحجبات (منهن معتزلات ومنهن غير معتزلات). وآخر المنضويات في هذه الشبكة، صديقتها وابنة جيلها، والأقل منها موهبة، الممثلة حلا شيحا.
حجاب راودها كما تقول، قبل سبع سنوات، واشتد إلحاحه قبل ثلاث سنوات على اثر وفاة علاء ولي الدين اثناء تصوير احد الافلام. ومذّاك وهي تتدرج ببلاغة: دشنت مفهوم «السينما النظيفة» وقادت لواءها. فطهّرت النجمات من البراثن السينمائية للشوق والأحضان، والقتهن في سلّة الكومبارسات، المستعدات للقيام بالاعمال «غير النظيفة»، مقابل اي ظهور. ثم راحت تحج العمرة تلو الاخرى، وتتباهى بها على الشاشة... وصارت ترد على هاتفها المحمول «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، وتشرح للمتصل ان من يحيي بهذه الطريقة يحصل على عدد معين من الحسنات، ومن يرد يحصل على حسنات اخرى (أي ان الاتصال بها بركة من بركات الله!). حاولت ان ترتدي الحجاب مرة، فثنتها عنه نبيلة عبيد. وراحت تمثل ثم تمثل، وتركز على الموضوعات «النظيفة» ايضا، وكأنها تخزّن.. وفجأة، ومثل كل اللواتي سبقنها الى الحجاب من الفنانات، حلّت عليها لحظة نور، واجهشت بالبكاء، ولم تجد نفسها الا لابسة الحجاب.. واصرت ان توصل كل ذلك الى الجماهير. ومثل اللواتي سبقنها ايضا، سوف تكون من الآن فصاعداً صاحبة رسالة، قدوة حسنة للمجتمع، تعطي للناس ما يفيدهم في الحياة وتقبض على الفيلم الواحد اكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات. فاذا كانت مجايلتها وصديقتها حلا شيحا، الأقل موهبة وطاقة منها، وقّعت بعيد تحجبها ثلاثة عقود حتى الآن؛ واذا كان أجر «العائدة» بحجابها، المخضرمة سهير رمزي، مليوني جنيه عن مسلسل تلفزيوني، اي نفس أجر نور الشريف..! فما بالك بحنان السوبر ستار؟! سوف تكون طبعا أغلى. وها هي وقعت بعد يومين من تحجّبها على فيلمين. وخذْ من الآن مواعظ وفتاوى واجتهادات»فنية».
هند الحناوي سافرة. وحنان الترك تتحجب. الاولى كانت واضحة، كاشفة، يسندها علم وثقافة، من غير ان تترك الدين. اما الثانية، فغطت شعرها، وحجبت معها القليل من عفويتها المتبقية ودخلت عالم الانفصام، المبني على تديّن شكلي ركيك واستعراضي، الحجاب فيه اشبه بفلكلور (انظر الى حجاب سهير زكي: انه اقرب الى ثوب الفرنسيسكان، ولكن من دون الذوق الرفيع للراهبات الفرنسيات). فيما هند فتحت افقاً لم يكن قائما قبل قضيتها. تقول الآن، وبعد نيل حق ابنتها بالاسم الابوي، انها سوف تؤسس جمعية اهلية للإهتمام بالحالات المشابهة لحالتها. واذا فعلت، تكون قد خلصت من معركتها بمشروع نادر من مشاريع الديموقراطية الاجتماعية
بقلم : دلال البزري
الحياة
No comments:
Post a Comment