بكائية فى وداع محجوب عمر
عرفت «محجوب عمر» باسمه الحقيقى «رؤوف نظمى» فى منتصف ستينيات القرن الماضى، ولم يكن قد مضى على مغادرته المعتقل الذى أمضى به ما يقرب من عشر سنوات سوى شهور قليلة، وكان مشغولا بإتمام دراسته فى كلية الطب التى انقطعت خلال السنوات التى أمضاها قيد السجن والاعتقال. وكانت البداية فى يونيو 1954 عندما ظهر شخص يتسمى حركيا باسم «محجوب» على شاشة المراقبات التى كان يقوم بها قسم مكافحة الشيوعية، للخلايا النائمة من «الحزب الشيوعى المصرى» الذى كان قد تلقى ضربة قوية فى فبراير من العام نفسه، شملت الجهاز الفنى الذى كان يتولى طباعة وتوزيع منشوراته ومجلاته وكتيباته السرية، خمد نشاطه بعدها لمدة ثلاثة أشهر، استأنف فى نهايتها إصدار وتوزيع مطبوعاته بغزارة لافتة للنظر، وبعد خمسة أشهر من متابعة حركة تداول المطبوعات، داهمت مجموعات من قوات الشرطة منازل من بينها منزل والده «ميخائيل أفندى عبدالملك» الموظف بالبريد، لتكتشف أن الاسم الحقيقى لـ«محجوب» هو «رؤوف نظمى ميخائيل» وقال والده إنه لا يقيم بالمنزل، ولما كانت المتابعة قد كشفت عن أنه يتردد على غرفة بسطح أحد المنازل بحدائق القبة فقد داهمتها قوة من الشرطة لتجد كميات ضخمة من المنشورات والمجلات والكتيبات الصادرة عن الحزب، وماكينة طباعة وجدت عليها أصل منشور بعنوان «بيان إلى عمال المعمار» ولم تجد «رؤوف» نفسه، فتركت كمينا نجح فى القبض عليه فى الثامنة من صباح اليوم التالى، ووجدت معه بطاقة باسم «محمد زغلول نصير» تحمل صورته، وفى شهادته أمام النيابة، قال البكباشى المقدم «حسن المصيلحى» مدير مكتب الشيوعية إن «رؤوف نظمى» كان الصلة الأولى بين قادة الحزب وبين المستويات الأدنى، وأنه أخذ على عاتقه بعد الضربة التى وجهت إليه فى فبراير 1954، أن يعيد ربط الاتصالات بين خلاياه بالقاهرة، وفى العام نفسه وأثناء محاكمة الإخوان المسلمين فى أعقاب محاولة فريق منهم اغتيال عبدالناصر فى ميدان المنشية، نشرت الصحف أن مباحثات كانت تجرى بين الإخوان والشيوعيين لإقامة جبهة وطنية بينهما، تقاوم اتجاهات مجلس قيادة الثورة نحو إقامة ديكتاتورية عسكرية، وأن ممثل الإخوان فى هذه المباحثات كان «سيد قطب» بينما كان ممثل الحزب الشيوعى المصرى هو «رؤوف نظمى» ولم أعثر على ما يؤكد هذه المعلومة، على الرغم من أن كثيرا من المنشورات التى كان يصدرها الحزب الشيوعى المصرى آنذاك، كانت تلح على تشكيل مثل هذه الجبهة، وتأخذ على الإخوان المسلمين أنهم أيدوا مجلس قيادة الثورة ووقفوا فى صفه، وتدعوهم إلى الانخراط فى جبهة ديمقراطية تعيد الحكم للمدنيين وتطلق الحريات العامة وتستأنف الحكم الدستورى، وتوقف زحف العسكريين على السلطة. وعلى الرغم مما كان ينوء به من هموم ما بعد غيابه الطويل وراء الأسوار، ومنها عودته إلى كلية طب قصر العينى ليكمل دراسته، وبحثه عن مسكن وعن وظيفة، وتفكيره فى أن يتزوج ويكون أسرة، ويرمم ما تهشم من مسيرة حياته، فقد بدا لى «رؤوف نظمى» حين التقيت به لأول مرة، مرحا ومتفائلا ومقبلا على الحياة، لا تعتوره أية مشاعر بالندم على سيره فى الطريق الملىء بالأشواك والأشواق الذى اختاره، أو الأسى للثمن الباهظ الذى دفعه لكى يحقق حلم العدل الاجتماعى الذى تملكه، بل كان على العكس من ذلك لا يزال منشغلا بالقضايا الكبرى، التى كانت تشغل اليسار المصرى والعربى آنذاك، وعلى رأسها العقبات التى تتعرض لها، والتراجعات التى تضطر إليها ما كانت تسمى أيامها بـ«التجربة الاشتراكية فى الجمهورية العربية المتحدة». ومع أن أفكارنا ربما بحكم التفاوت بين الأجيال لم تتطابق تماما، فإننى أعجبت بحيويته العقلية، ومنطقه القوى فى الدفاع عن آرائه، فدعوته للكتابة على صفحات مجلة «الحرية» البيروتية التى كنت أعمل مراسلا لها بالقاهرة آنذاك، وكانت أسبوعية يسارية تصدر عن حركة القوميين العرب فى لبنان، وتهتم وأهتم أنا الآخر بإدارة الحوار، حول وحدة اليسار ومستقبل الاشتراكية الناصرية، فكتب مقالا كان أساسا لمناظرة اشترك فيها كثيرون من الكتاب اليساريين المصريين والعرب.. ومع أنه كان يقف فى الوسط بين اتجاه يجنح لليمين ويؤيد الاشتراكية الناصرية بلا تحفظ، وآخر يتطرف يسارا، ينحو لتوجيه انتقادات عنيفة إليها لا تخلو من حدة، كنت أميل إليه.. فقد أثارت المناظرة انتباه كثيرين كان من بينهم أجهزة الأمن التى لم أعرف إلا فيما بعد، أنها كانت تتابعنى منذ حوالى العام وأن ما أكتبه بقلمى أو ينشر على صفحات «الحرية» من مقالات لكتاب مصريين يساريين، كان موضوعا لاهتمامها البالغ. «ووقعت الطوبة فى المعطوبة»: دعوت «رؤوف نظمى» وآخرين من المختلفين معه، إلى جلسة فى منزلى، لاستكمال المناقشة واستفدت مما دار فى هذه الجلسة، وأنا أكتب سلسلة مقالات بعنوان «الثورة بين المصير والمسير» ما كادت تنشر حتى وجدت نفسى، ومعى كثيرون بينهم «رؤوف نظمى» فى معتقل القلعة، حيث بدأ الضرب بالعصى والكرابيج والسحل على الأرض، والتعليق من الأذرع، بحثا عن مؤامرة إعادة تشكيل الحزب الشيوعى المصرى، الذى كان قد حل نفسه فى عام 1965 وتخيلت أجهزة الأمن أن ما كتبه «رؤوف» ومناظروه وما كتبته كان محاولة لصياغة خط سياسى له يتم على أساسه عودته للنشاط. وكان من بين هذه المقالات، مقال متشدد فى انتقاده لثورة يوليو بتوقيع «محجوب عمر» عذبت لمدة يومين، لكى أعترف بأن كاتبه هو «رؤوف نظمى» لأن الاسم الذى نشر به، جمع بين اسمين حركيين كان «رؤوف» يستخدمهما فى مستويين مختلفين من مستويات التنظيم أيام انغماسه فى العمل السرى، ولم يصدقنى المحقق حين قلت له إن المقال أرسل إلى المجلة عن غير طريقى، وأننى لا أعرف كاتبه. وخلال الشهور التى أمضيتها معه بالمعتقل، اكتشفت أنه يكتب شعرًا جميلا ومميزا بالعامية المصرية، وعاينت عن قرب مواهبه الإنسانية التى كان أبرزها قدرته على بعث التفاؤل فى نفوس من حوله، وخاصة نحن الذين كنا نتعرض لتجربة الاعتقال لأول مرة، وكان يداعبنى قائلا: إنه كان قد اشترى ليلة اعتقاله، صيوانا للملابس لأول مرة فى حياته، وقبل أن يضع ملابسه فيه، اقتيد للمعتقل بسبب ما كتبته مع أنه كان يود لو أنه كتبه حتى لو كانت النتيجة أن يعود للمعتقل الذى أمضى فيه عشر سنوات بعد أقل من عامين على مغادرته له، وفى كل مساء كان صوته يأتينا وهو يغنى بصوت جميل أغنية عبدالوهاب الشهيرة «لما انت ناوى تغيب على طول.. مش كنت آخر مرة تقول»، ثم يهتف: «يمسيكى بالخير يا اللى فى بالى».. وبعد ثلاثة أشهر من مغادرتنا المعتقل وقعت هزيمة يونيو 1967، وبعدها بثلاثة أشهر أخرى كتب فى مجلة «الكاتب» مقالا بعنوان «النضال بلغة أخرى» أعلن فيه أنه فى طريقه للانضمام إلى حركة المقاومة الفلسطينية.. حيث عرفه الناس باسم «د. محجوب عمر» عضو المجلس الثورى لحركة «فتح»، وما كدت أقرأ خبر رحيله عن الدنيا هذا الأسبوع، حتى رنّ فى أذنى صوته وهو يغنى «لما انت ناوى تغيب على طول.. مش كنت آخر مرة تقول» ثم يهتف: «يمسيكى بالخير يا اللى فى بالى»!