Friday, October 29, 2010

البحث عن حيوان قومى جديد للبلاد 3

أصالة الحمير فى مأزق خطير
ملخص ما نُشِر: بعد أن توافق الراوى وصديقه على ترشيح الحمار حيوانا وطنيا رمزيا للبلاد، وتعزيز هذا الترشيح بمواقف حميرية أصيلة فى تاريخ البلاد المعاصر، كما فى التاريخ الثقافى للأمة وللبشرية بعامة، يستعيد الراوى ذكرى موقف للحمار عاينه فى طفولته المبكرة وأحدث انقلابا فى مفاهيمه عن حقائق الحياة وأسرار حيويتها، ويبدأ فى توسيع الدلالات من هذا الموقف الذى يلقى الضوء على مناطق متوارية فى العتمات السيكو والسوسيو بوليتيكية للبشر، لكن سؤالا ظل يحيره، عن حزن دفين ركب حمار الموقف البعيد ذاك، وظل يمتطى الخاطر!

بقوة عاصفة صافية قفزت الفرس خارجة من الحفرة، وانطلقت تركض ركضا ساحرا، لم تكن تفر، بل تدور رامحة فى الأرض الشاسعة الخالية، تدور وتدور، «فرحانة»، هكذا علق الرجل الذى كان فى الحفرة، وهى كلمة بلورت لى معنى خارق الجمال فى هذا الفعل الذى بدا لى عيبا فاحشا من قبل، أيام انخراطى فى جوقة عيال نشيد الخروف والسطوح.

كانت الفرس تدور رامحة وتدور بينما الرجال يضحكون بانبساط، وقد شاع فى المكان الشتوى الترابى العارى، دفء ودود، وبدا لى أن الشمس صارت زاهرة أكثر.

أما الحمار، فبدا هامدا صامتا كأنه تجمد فى مكانه، كأنه لا يدرك قيمة الزلزال الذى فجره فى حفرة ملعب المخزنجى، وفى وعى الطفل الذى كنته، إذ عرفت السر عاريا كامل الانكشاف، بعد تراث من التغطيات العبيطة على الحقيقة، والتى تقول فى أحشم الحالات أنهم أخرجونا بشق بطون سمانات أرجل آبائنا التى تنتفخ بنا بعد زواج الرجال من النساء، أو شق بطون أمهاتنا التى كبرنا فيها بعد بوسة لأمهاتنا من آبائنا على الفم، وفى حالات الغضب علينا كان يقال لنا إنهم وجدونا رُضَّعا فى خرقة أو كومة قش على عتبات المساجد أو أمام أبواب الدور عند الفجر.

لقد أنهى ما أنجزه الحمار مع الفرس زمن كل هذه الترهات وعرفت منه سر أسرار حيوية العالم وتواصُل الأحياء فيه. وهو سر رأيته أمرا يدعو الأفراس إلى فرح يوشك أن يجعلها تطير. نشوة محلقة الجمال تدعو إلى المحبة، واحترام الحياة. فقد استقر فى ذهنى ما رأيته وأنا طفل مع بهجة أن تحمل الفرس وتلد مهرا. مُهر صغير جميل زين لى خيالى امتلاكه ومصاحبته.

ومن ثم كان الفعل كله فى دائرة البراءة شفافا بكل ما فيه من إثارة وحميمية وعرامة وتفجُّر حسىِّ. وبرغم علانيته التى تبدو للكبار فاضحة، بدا الأمر لى يومها سريا وكونيا وسحريا ونقيا نقاء بذرة تنشق عن نبتة تغدو شجرة تزهر ومن زهورها ينبثق الثمر.. أطيب وأطهر الثمر!

لم يكن لى فى هذا العمر والحمد لله أن أعرف أن هذه كانت عملية تهجين أو تعشير بسطوة بشرية للحصول على دابة قوية شبه بكماء للتسخير، وأن الهجين الطالع لن يكون مُهرا وليدا ولا جحشا يرضع. بل سيكون بغلا شديد البأس مقطوع النسل، ليس حرونا كأبيه الحمار ولا عصبيا كأمه الفرس، ومُذعن لاستبداد من دبروا ذلك التهجين الذى لا يحدث أبدا فى البرية إلا تحت وطأة شدة يصل فيها النوع إلى حافة الانقراض أو التهديد بالزوال.

وتكون الهجائن الناتجة عقيما وغير قابلة لتوريث خلطتها الجينية، فتظل نادرة إلى درجة التلاشى كما فى الهجين الناتج من تزاوج الحمار الوحشى المخطط مع حمارة أهلية بلا خطوط، فينتج عن تزاوجهما بغل وحشى Zonkey أو «حُميراش»، قليل الخطوط وعقيم ومرشح للانقراض.

وهى حالة مادية من التجريف الوراثى بالتخليط المتعسف للجينات تؤذن بسرعة هلاك وانقراض الكائن المُخلَّط فى ظروف قسرية ومُخترِقة لتوافقات وتآلفات المنظومات الحية المستقرة عبر آلاف ومئات وربما ملايين السنين، حيث تُطوِّر الكائنات الحية نوعا من المناعة الذاتية يحول دون خلط جيناتها بجينات مختلفة ولو كانت من العائلة نفسها كما بين الخيول والحمير فى العائلة الخيلية، والنمور والأسود فى العائلة السنورية، بل تمتد هذه المناعة ضد منح أو أخذ جينات من أقارب الدرجة الأولى مما يمثل خطورة على جينات النوع نفسه أو يسبب إضعافا لها، فالكائنات الحرة فى الطبيعة البرية لا يحدث بينها سفاح محارم، ولا تهجين متعسف، فقط عندما يصل النوع إلى ما يسميه أهل علوم الوراثة «عنق الزجاجة»، يقع المحظور بالفطرة، وتَفْسَد دورة الحياة، كأن تُحشر الأنواع المتباينة فى حيز ضيق معا تحت وطأة الشدة، أو يصل عدد النوع الواحد فى بيئة ما إلى حد الندرة، فيحدث ما لا يحدث أبدا فى الحالة السوية.

ويقع ما يسمى فى علم العشائر والوراثة «الاستيلاد الداخلى» أو سفاح المحارم فى دنيا البشر، ونتائج كل هذا «العك» الوراثى القهرى لا تكون حميدة أبدا، بل خروج أنسال ضعيفة التوالد فى أفضل الحالات، وعقيم فى معظمها، وما التهجين القسرى إلا محاكاة، لا لسوية الطبيعة، بل للانحراف فيها، والنتيجة عقم، عقم يصل بالنسل إلى التشوه وحافة الانقراض، فى الحيوان كما فى الإنسان كما فى النبات، فهل نتعظ من خلط الحمير الأهلية مع الحمير الوحشية؟ والحمير مع الأفراس؟ والخيول مع الأتن؟ هل نتعظ من أمثولة الحمير؟

هل نتعظ مرتين؟ مرة لأننا محشورون فى عنق زجاجة من التزاحم وعدم الوفرة والنكد والسحب السوداء وتسلط حراس حديقة الحيوان التى صرنا إليها! ومرة لأننا منذورون لفقد ما اعتادت أن تمنحه لنا حقولنا منذ آلاف السنين بزعم تحقيق الاكتفاء الذاتى باستخدام البذور المعدلة وراثيا فيما وراء المحيط الحويط الغويط، والتى لا نعلم شيئا عن أسرار تعديلها فى معامل التكنولوجيا الحيوية غامضة النوايا والبعيدة عنا، والتى لانعرف ماذا حشروا فى جيناتها المعدلة والتى يتردد أنها تحتوى على جينات للتحلل الذاتى، حيث تثمر فى البداية ثم تقفر بعد ذلك، وهو المخطط الذى يتردد أن تنفيذه يتم فى شركة «مونسانتو» الأمريكية أكبر مشوه للبذور الأصيلة فى محاصيل العالم الفقير لصالح بذورها المعدَّلة وراثيا، والتى تفرضها على الدنيا حتى تجنى المليارات من تخريب حقول الجياع وتبوير مستقبلهم، كما أنها الشركة نفسها التى صنعت الكاشف البرتقالى الذى أحرق أخصب حقول الفيتناميين وشوه أجنتهم.

وهى المسئولة عن كوارث زراعة نوع من الذُرة المدمِّر للأرض فى الهند وغيرها، وقد شقت هذه الشركة طريقها إلى زراعاتنا بمساعدة أشخاص مريبين لتدمير بذور محاصيلنا التقليدية التى تم توليفها مع أرضنا ومناخنا وناسنا لآلاف السنين، ومحتها من الوجود أو تكاد لصالح بذور مستوردة ممن لانثق فى حبهم لنا ونثق فى عشقهم لعدونا، كما أنها بذور ملعوب فى أساسها الوراثى لعبا تمتلك مونسانتو حقوق ملكية شفرته الجينية، وبالتالى تتحكم فى سوقها، فهذه البذور المعدلة وراثيا ينبغى أن تُشترى من مونسانتو مع كل زرعة لانها تختفى بعد كل قلعة! مخطط شيطانى لتجريف سلالات زراعات مصرية أصيلة، وإحلال سلالات مريبة بمكانها يسهل التحكم فيها، وتجعلنا نحن أنفسنا مرهونين لمن يتحكم فى هذه السلالات الدخيلة، بل ربما يكون الهدف هو تجريف سلالتنا نحن كشعب محشور فى عنق زجاجة طال حشرنا فيها، شعب محشور مجبور ويوهم نفسه بأنه لايزال يتمطَّى فى البراح فيتنهد قائلا «آه، والحمد لله»!

«آه، والحمد لله»، قال مثلها جحا عندما ضاع حماره فظل يتمتم «حمارى ضاع والحمد لله» «حمارى ضاع والحمد لله» فقيل له يا جحا لماذا تحمد الله وقد ضاع حمارك؟ فأجاب: «أحمد الله لأننى لم أضِع مع الحمار»! وآه من ظلمات السنين التى تزحف على إشراقات الطفولة، والحمد لله أننى عشت مشهد خصوبة «مَنزَل الفرس» وأنا فى صفاء ونقاء الطفولة تلك، فرأيت الجنس سويا وجميلا وارتبط عندى بهدف الإنجاب وحميمية الحب بل بجمالية الحلال لأننى لم أره بعينى الطفل إلا زواجا مشروعا وله هدف حلو. وكان مستحيلا على من كان هذا هو أول انطباعاته عن الجنس أن يغدو متعصبا أو متطرفا أيدلوجيا من أى نوع، لأن حالات التعصب والتطرف والانغلاق والجنوح، معظمها وأيّا كانت لافتاتها، هى انحرافات نفسية تنمو كأورام خبيثة على جرثومة مركزية تنظر إلى هذا الفعل الكونى الخلاق كلعنة، لعنة مشتهاة، وصراع دفين! وهو صراع يعيشه كمدا وقهرا ملايين الشبان والشابات فى هذا العهد السعيد الذى لايجدون على أرضه ولا فى عرضه سبيلا ولا مأوى ولا زادا ولا ميعادا للنشوة الحلال، فأنا لم أر فى ذلك الصباح السعيد البعيد تلك النشوة إلا قرينة المشروعية والحلال.

لأننى فهمت أن ما حدث كان زواجا لإنجاب مهر جميل. وكل صغير جميل كما يقول الفرنساوية! وهو أمر يزيد فَرْستنا، فثمة عشرة ملايين شاب وفتاة فى مصر الآن تجاوزوا سن الخامسة والثلاثين دون زواج، دون همس ولا لمس ولا حلم مشروع حتى للحيوانات، فى أبوة وأمومة. فهل هناك مخطط للانقراض أوضح من هذا؟ وأفظع من التهجين القسرى لاستيلاد بغال أمهاتها أفراس وأباؤها حمير، ونغال آمهاتها أتن وأباؤها خيول، وحُميراشات من خلطة الحمير البرية بالحمير الداجنة، وكلها، كلها عقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟

لقد دامت ذكرى توهج حفرة الطفولة تلك فى نفسى، بكل ما استتبع هذا التوهج من فرح رامح ونشوة متأملة، ثم كان تتابع الفصول وتغير الأماكن يهميان على هذه الحفرة، مرة بمطر غامر، وأخرى بشمس حارة، بل أخذتها معى فى ارتحال طويل إلى أماكن بعيدة فى هذا العالم، فعرفت الحفرة نصاعة تساقط الثلوج، ونقاء هواء الجبال، وتلاطم موج البحر، وخبايا الغابات البكر والبرارى.

وعلى مر السنين لم تعد الحفرة غير مرجِ زهور فرحانة وعشب نشوان، والأرض الخلاء التى كانت ملعب المخزنجى، ولم يعد لها وجود الآن بعد أن دُفن براحها الشاسع تحت أكداس من الأبنية السوقية والشوارع القذرة، صارت تلك الأرض فى أفق خيال ابن المخزنجى بستانا خلابا لأشجار توت وجميز وبلوط وشوح وصنوبر وكستناء وحور. ولم يكبر حمار الطفولة أبدا، فقد ظل فتيا يجتر نشوته المتأملة بين زهور بهيجة وعشب نضير أمتلأت به حفرة «منزَل الفرس». والفرس التى رمحت بفرح الخصب على تلك الأرض، تصاعد رمحها وتسامى، فصارت تحلق فوق هامات الشجر العالى، وبين السحب.

لكن، وبرغم جلاء وصفاء زلزلة الحفرة البعيدة تلك، فإن هناك حيرة أمسكت بتلابيب الولد الصغير الذى كنته، ولم أحسم إزالتها تماما حتى الآن، وهى حيرة يبلورها السؤال: لماذا ظل الحمار جامدا وصامتا بعد أن شارك بعرامة فى تفجير كل هذا الفرح والمرح والود وازدهار الشمس. كل هذا التحليق؟!!!

لم أُحسن الحكم عليه حينها، وإن كان حيرنى، لكننى مع ترجيع متكرر للمشهد الآن، وبعد إبحار طويل بعيدا عن كتب الفلسفة المملة، رأيت الحمار ساكنا فى نشوة ثملة، وكان يسدل جفنيه على عينيه الكبيرتين الشاردتين بتمهل، كمن يستعيد شيئا نادرا فى أعماقه. لعله كان يجتر ذكرى اللحظة العظمى، يستحلب فى ذاكرته على مهل، انفجار النشوة المزلزلة الخاطفة، ويستبقى تأثيرها فى نفسه! كان متأملا حسيا أبيقوريا عظيما، بل ذهب أبعد من أبقور فى فلسفة اللذة، أبيقور الفيلسوف اليونانى القديم الذى عاش فى الفترة من 341 حتى 270 قبل الميلاد، كان يتكلم عن الفلسفة كمتعة عقلية تسعد النفس، أما حمار طفولتى فقد تسامى باللذة المادية إلى عنان اللذة العقلية، فكان أبيقوريا متطورا وهو يسدل جفنيه على عينيه ويطرف على مهل شأن المتأملين الكبار. لكنه كان تأملا حزينا، حزنا مثقلا بشجن عميق، أحاول النظر فى عمقه بعد كل السنين، فأستهدى بطبيعة الشجن..

ولأن الشجن حزنٌ نبيل، أزعم باستقراء لحظة الحمار البعيدة تلك، حيث الهبوط بعد الذروة، والإحباط بعد الاندفاع، أزعم أن الحمار كان حزينا لانبثاق تلك النشوة فى غير موضعها وخارج إطار أصالته الحميرية، إضافة لعبثية نتائجها، فتألق هذه الفحولة وانفجار زهوتها كانا مفضوحين تحت عيون الأغيار المتسلطين، ونتائجهما كانت مسفوحة مقدما تحت أقدام التسلط، فحصاد هذا البذار الحار والرى الغامر لن يكون غير ابن مستعبَد لتسلط هؤلاء الأغيار، ومحكوم عليه مقدما بالعقم!

هكذا أتصور شجن الحمار يومها، والذى كان حزنه النبيل على الأرجح يتضاعف وهو يتصور نشوته فى واقع آخر، فى برارى الحرية والبراح، فالحُمُر البرِّية الحرة تعيش وياللعجب حياة أسرية سوية تكاد تكون إنسانية تماما، فالحمار البرى من أكثر الحيوانات غيرة على أتانه البرية، والأتان البرية من أكثر الحيوانات إخلاصا لحمارها البرى، وجحوشهما أولاد حلال مصفَّى، وينعمون بأبوة وأمومة عالية الإخلاص والتفانى، فعائلات الحمير الحرة فى البرية أرقى كثيرا من عائلات الملوك الزعماء القادة.. أسود كل الغابات!

فالأسد الذى نظنه أسدا تحوله لبؤته اللعوب إلى خرقة فى لحظة، لحظة أن يمربها أسد جديد شاب باحث عن أنثى وهى فى دورة الشبق، فتشعل اللبؤة نار العراك بين الأسدين، وغالبا ما ينتصر الأسد الوافد على الأسد الزوج لأن الوافد يكون أصبى وأقوى، عندئذ تطرد اللبؤة زوجها وتقترن بالأسد الجديد، ويكون أول ما يفعله زوج الأم هو أن يقتل أشبال اللبؤة من زوجها المطرود ليضمن سيادة نسله القادم، قتل قتل، قتل فعلى تحت سمع وبصر الأم اللبؤة دون اعتراض منها.

أما الزوج المطرود، فلا يجد من يلمه غير أسرة شقيقة له مع زوج ضرغام قد يكون زوجها الأول أو الثانى أو الثالث، ولا يسمح الأسد زوج الاخت للأسد الأخ الطريد الشريد بالالتحاق بأسرته إلا أن يكون فى ذيل أفرادها، يرعى أشباله، « بيبى سِتر» يعنى، هكذا هى الأسود! وهكذا هى منهم الزوجة والأم.. اللبوة، وتخفيف الهمزة هنا لايعنى استخدام كلمة عامية مبتذله وفيها قباحة، بل هو استخدام فصيح تماما، ولعله من أنجح نماذج تخفيف الهمزة صهرا للمعنى مع المبنى، فاللبوة لبوة بتخفيف الهمزة على الواو وبسلوكها الغريزى، لأنها مجبولة على التخفف الأخلاقى من الالتزام بالإخلاص للزوج متى ما لاحت لها أى إثارة بديلة، والأبشع هو دوسها لأمومتها تحت أقدام نزوتها، ثم إنها الأنثى الوحيدة بين الحيوانات التى بلا برقع للحياء، فهى التى تبادر الذكر بالتحرش طلبا للوصال ولو بالعافية. لبوة! وما هكذا تكون الأتان. ما هكذا تفعل الحمير البرِّية!

ما هكذا تفعل الحمير الحرة، هذه معلومات تيقنت منها وأنا أدافع عن صفاء رؤية الطفل الذى كنته لالتحام الحفرة التى كانت، لهذا ظلت عندى انبثاقا جماليا لمعنى النشوة فى قلب الغاية، تناظر نشوة الحلال والرضا والتوافق للزواج الناجح فى دنيا البشر، وهى النشوة الأعلى كما يقول علماء النفس وأصحاب التجارب والخبرات، لاتضاهى اكتمالها لحظات مسروقة، أو سوانح مُختلَسه، نشوة أكمل وأجمل لأنها مدثرة بالرحمة والود ونظافة الإخلاص وطمأنينة الصواب فى ظل الشرعية، نشوة أعظم لم يكف عن فصم عُراها طغاة ولصوص البشر من كل صنف وطيف، وهل أمام الحكم البشرى، مثلا مثلا، إلا أن يكون زواجا مشروعا بحرية الاختيار والتراضى فى جهة.. أو يكون بغاء أو اختلاسا أو اغتصابا فى الجهة الأخرى؟! جهتان لا ثالث لهما مهما تفيهق المتفيهقون! خاصة متفيهقى السلطة والسلطان وحب الرُمّان!

هل هناك مدارج فلسفية أرقى من تلك التى يمكن للمرء أن يصعد إليها، لا على ظهر حمار مُدجَّن، بل بصحبة حمار برى حر؟ لا أظن! ومع ذلك يظل للحمار، كحمار، بعض الحكمة، وبعض التحكيم، أو التطبيب، وهى خبرة لم يمنحها لى حمار الطفولة، بل حمار الرشاد!
ولحمار الرشاد حكاية........

بقلم:محمد المخزنجي- الشروق

شباب ٢٠١٠: حكايات «جيل الغضب

مظاهرات فى الجامعة، مرة لأجل «الأقصى»، ومرة ضد أسعار الكتاب الجامعى، اتحادات طلابية، وأخرى موازية، صور لشهداء غزة، وبوسترات لجمال عبدالناصر ود. محمد البرادعى. هذا هو المشهد العام لجيل غاضب يشعر أن لشبابه عليه حقا، وأن «صوت الوطن مجروح».

كوكتيل غريب يمتد من داخل الحرم الجامعى وحتى تجمعات العمال فى المحلة وحلوان. كوكتيل يشكل الشباب عموده الفقرى، وقوته الضاربة، وربما الوحيدة. فى المحافظات ينشط الشباب لجمع توقيعات لترشيح البرادعى، وفى الجامعات يتظاهرون فرحاً بقرار المحكمة بإخلاء الجامعة من الحرس التابع لوزارة الداخلية. شباب من كل الاتجاهات بعضهم قرر أن يجرب حظه فى الشارع السياسى، وآخرون جربوا «النضال» فى حركات التغيير التى ولدت فى ٢٠٠٥ مع بدايات الحركة المصرية للتغيير «كفاية».

فى هذا الملف ترصد «المصرى اليوم» حكايات الجامعة من وجهة نظر الطلاب الجدد، تناقش معهم الوضع الراهن، وتستمع لما أعجبهم وما لم يعجبهم فى كوكتيل الجامعة. فى الملف أيضا شباب حملة «البرادعى رئيساً» ونشطاء حركتى «٦ أبريل»، و«حقى» يضعون تفاصيل جديدة فى مشهد الشباب الغاضب.

سنة أولى جامعة: السيرة الذاتية للطالب «المستجد»

فى الفصل الدراسى الأول يجد الطلاب المستجدون أنفسهم وسط دوامة لا تكف عن الدوران: اتحاد طلبة حكومى بامتياز، تيار إخوانى متصاعد يطرح نفسه كبديل وحيد، وفى المنتصف بين الخيارين يجد الطلبة تيارات أخرى تسير خجْلى أحيانا وتنشط أحيانا، تيارات تجمع الليبرالى باليسارى، والناصرى بأنصار حركة «شباب ٦ أبريل».

منذ فترة وجيزة انتهت الانتخابات الطلابية، وقبلها بكثير بدأت، كانت فترة «التسخين» بين شقى الرحى، «الاتحاد»، ومرشحى الإخوان. فى تلك الفترة تفاوتت درجات التسخين من الجانبين، ففيما اعتمد الاتحاد الطلابى على قوة الأمر الواقع، استغل الإخوان الفرصة وافتتحوا «موسم التنديد السنوى».

لم تكن «سمية» تصدق نفسها، كانت الصورة الذهنية التى رسمتها للجامعة تختلف عن تلك التى شاهدتها فى أول يوم دراسى، كانت تعتقد أن الجامعة مبان متعددة الطوابق تفصل بينها مساحات خضراء، تتناثر بها مقاعد رخامية بيضاء للاستراحة، مع نافورة مياه يتجمع حولها الطلاب، لكن الصورة كانت أكثر تعقيدا بكثير مما تخيلت.

أول يوم وطئت فيه قدماها الحرم الجامعى لجامعة عين شمس، متجهة إلى كليتها «الآداب»، حيث الكلية التى اختارها لها مكتب التنسيق، تزامن مع مظاهرة نظمها مجموعة من الطلاب، يتقدمهم فتيان فى بداية الصف، كل يحمل فى يده اليمنى مصحفاً، بينما تمشى وراءهم فتيات يرتدين أزياء شبه موحدة، تتراوح ما بين النقاب والخمار والإسدال والحجاب الضخم الذى يلف الجسد تقريبا، كان الجميع يرفعون لافتات كتبوا عليها «نعم لنصرة المسجد الأقصى». عرفت سمية فيما بعد أن الاعتداءات على الأقصى، ويوم الأرض من «مواسم» التظاهر الإخوانى المعروفة.

وقفت الطالبة المستجدة صامتة واكتفت بالوقوف على الرصيف المقابل لكليتها، تشاهد ما يحدث من بعيد، فبالنسبة لها هذه هى المرة الأولى التى تشاهد فيها مظاهرة وجهاً لوجه، وبينما كانت عيناها تتابعان وتراقب من بعيد، وجدت فتاة تقف أمامها، قائلة: «عادى جداً كالعادة طلاب الإخوان المسلمين بيحاولوا يعملوا مشاكل فى الجامعة كتير»، وبدأت تسألها عن اسمها والفرق التى تنتمى إليها، ثم جذبتها من يدها لتعرّفها على الجامعة.

ابتلعت سمية صدمة المظاهرة، أحبت شعور الغضب، أحبت ربما بعض الشعارات، لكنها توجست من هذا التنظيم الحديدى، وأعادت طوابير المتظاهرين لذهنها صورة طوابير الخبز والمياه ومؤخرا أنابيب البوتاجاز.

بعد أيام قررت الطالبة «المستجدة» أن «تتفرج» على ما حولها بهدوء، بدأت بتفقد المكان حتى توقفت أمام مبنى رعاية الشاب بالكلية، حيث لافتة كبيرة مكتوب عليها «اتحاد طلاب كلية الآداب يرحب بالطلاب الجدد»، دخلت سمية لتسأل، لتجد فتاة ترحب بها وتعدد الخدمات التى يقدمها الاتحاد.

يوم آخر قررت فيه «المستجدة» أن تواصل استكشاف المكان، مرت بكلية الحقوق لتناول وجبة غداء خفيفة بالكافيتريا، لتجد ربما للمرة الأولى فى حياتها معرض صور حول الأقصى، هذه المرة كانت صورة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر معلقة بشكل واضح لتعلن عن هوية المكان.

سألت: لماذا الرئيس عبدالناصر؟، فرد عليها أحد الطلاب المتحمسين: «لأنه الزعيم الوحيد اللى بجد، تفتكرى لو كان موجود كان سكت على اللى بيحصل للأقصى، عن الشهداء اللى وقعوا فى غزة؟» لم يمهلها الطالب كى تفكر فى كلماته حتى أعطاها جدولاً دراسياً عليه صورة الزعيم، ومذيلاً بأرقام تليفونات، قائلاً لها: «خلى ده معاكى ولو احتجتى تعرفى أكتر ممكن تيجى فى ممر ناصر اللى قدام كلية الحقوق، أو اتصلى بينا على الرقم اللى معاكى».

قررت عدم التجول فى الحرم الجامعى، والتوجه للصلاة فى مسجد كلية الآداب، لأداء صلاة العصر، وقبل بدء الصلاة نادت عليها إحدى الفتيات المنتقبات، وأخبرتها بأن صلاتها لن تصح، لأنها ترتدى بنطالاً وقذفتها بإسدال للصلاة، نظرت إليها سمية وردت «على فكرة أنا لابسة بنطلون، بس عليه جاكيت طويل لحد الركبة، مش معمول فيه حاجة أطول من كده».

ردت عليها الطالبة مبتسمة: «إنتى متعرفيش إن لبس البنطلون حرام سواء كان واسع أو حتى لابسة عليه جاكيت طويل، وبعدين إنتى شكلك جديدة وأول مرة تصلى فى مسجد الكلية، على العموم أنا أختك فى أسرة المنار التابعة للتيار الإسلامى للجامعة، ويسعدنى إنك تحضرى الدرس اللى بنعمله بعد الصلاة للطلاب الجدد بالكلية»، أخذت الطالبة القديمة رقم سمية «عشان أبقى أصحيكى تصلى الفجر».

استسلمت سمية وحضرت الدرس، وكان أول درس يتكلم عن الاختلاط، وتحريم التعامل أو حتى الحديث مع الشباب «لأنه حرام شرعاً، ولا يجوز للفتاة أن تتحدث مع زميل لها، حتى وإن كان فى إطار العلم» كما جاء فى الدرس، وهنا شعرت سمية بأنها انفصلت كلياً عن عالم الحرم الجامعى، حيث حدائق الجامعة المكتظة بـ«شلل» الاصدقاء من الطلاب والطالبات، لتتساءل: «هو كل الناس اللى قاعدة فى الجامعة دى حرام، كل البنات اللى لابسين بنطلونات حرام، وكل البنات اللى بتكلم أصحابها حرام؟»، انتهى الدرس ولم تجد إجابة عن أسئلتها البسيطة.

قررت إيجاد إجابات عن أسئلتها، وأفرغت حقيبتها الصغيرة بحثاً عن جدول ناصر ورقم تليفون فتاة أسرة المنار، والبريد الإلكترونى لطلاب الاتحاد، لتضعها بجوار بعضها البعض، اتصلت بكل طرف على حدة لتتعرف عن قرب على أهداف كل تيار، من الإخوان إلى الاتحاد المعين مرورا بالناصرى صاحب معرض الصور.

«٦ أبريل»: حقنا هناخده يعنى هناخده

فى ٦ أبريل ٢٠٠٨ كانت الشرارة الأولى.. الحقيقة لم تكن شرارة بقدر ما كانت زلزالا، ففى الوقت الذى طالب فيه الشباب بإضراب عام كان العمال يطالبون بإضراب داخل مصانع المحلة الكبرى، وبعد نحو ساعة من عصر يوم ٦ أبريل، انتفضت المحلة الكبرى عن بكرة أبيها.. هناك حيث وجد النظام نفسه للمرة الأولى فى مواجهة حقيقية من شارع لشارع ومن بيت إلى بيت، مواجهات استخدمت فيها قوات الأمن أقصى ما لديها لـ«دك» المدينة لو تطلب الأمر كى لا تنتقل «الشرارة» لأماكن أخرى.

فى ذلك اليوم برزت على السطح حركة ٦ أبريل، بعدما عاشت القاهرة يوما «بلا مواطنين» تقريبا، حيث لزمت الغالبية منازلها «خوفا أو تضامنا». ومنذ ٢٠٠٨ وحتى الآن وحركة شباب ٦ أبريل تعكس وجهة نظر جيل غاضب يشعر أن الكبار سرقوا منه كل شىء، ولم يتبق له سوى أن يعلن عن نفسه ولو بصيحة غضب.

تحدث محمد عادل، أحد نشطاء الحركة قائلا: «منذ بدايتها وحركة ٦ أبريل دفعة قوية لتشجيع الشباب على ممارسة العمل السياسى، والعدد فى تزايد مستمر لإيمان المصريين بمبادئنا وأفكارنا ومطالبنا، على الرغم من أن هناك من يخشى المشاركة ويكتفى بالتعاطف. وأضاف: «دورنا ليس سياسيا فقط، ولكن لخدمة المجتمع بأكمله، قد لا يتم تنفيذ مطالبنا فى يوم وليلة فالمشوار لايزال طويلاً ولكن نسعى وليس عندنا ما نخسره فلا شغل ولا تعليم ولا أى حاجة كويسة». واستكمل حديثه قائلا: «الحلم مش مستحيل وبالفعل قطعنا شوط كبير، يعنى حقنا هناخده هناخده وماحدش هيقدر يمنعنا».

وقالت أمل شرف، إحدى عضوات الحركة: «قبل ٦ أبريل لم يكن لى أى نشاط سياسى، وكنت مجرد متابعة عادية للقضايا، ولكن عندما سمعت عن الجروب تحمست جدا للفكرة، وقررت أن أشارك لأننى كارهة للظلم، وده واجب علينا، أن نحارب الظلم والفساد والفرصة إذا لم تتح لنا يجب أن نخلقها بأنفسنا ونطالب بأبسط حقوقنا، العدالة وتغيير الدستور وده حقنا الطبيعى». واستكملت حديثها قائلة: «لقد طفح الكيل، ولدنا وجدنا كل شىء مفروضاً علينا، علشان كده لن نصمت بعد الآن وهنجيب حقنا».

«أنا من مواليد ٦ أبريل ٢٠٠٨».. هكذا بدأ عمرو على حديثه واستكمل قائلا: «فقبل ٦ أبريل لم يكن لى أى علاقة بالسياسة، ولكن بعدما وجدت الكيان الذى أنضم له ونتشارك من خلاله الأفكار والأهداف لم أتردد ثانية، خاصة أن ظروف البلد متدهورة، وليس هناك بديل للتغيير والتخلص من السلبية التى نعيش فيها». وأضاف: «للأسف هناك قيود وليس هناك فرص حقيقية تتيح للشباب حرية التعبير والمشاركة، ولكن واجب علينا أن نتحرك علشان مانفضلش زى ما احنا.

شباب البرادعى: «خلّى الأمل صاحى»

تجاوز عدد المشتركين فى حملة تأييد المدير السابق لهيئة الطاقة الذرية الدولية د. محمد البرادعى ربع مليون شخص بعد أشهر من تأسيسها. الحملة بدأها شباب من جميع التيارات السياسية، والكثيرون كانت الحملة هى مشاركتهم السياسية الأولى.

من هؤلاء محمود الحتة، أحد مؤسسى الحملة، الذى قال : «قبل بدء الحملة لم يكن لى أى نشاط سياسى، ولكن كان لدىّ رغبة حقيقية فى عمل أى شىء لبلدى، وأهم الأسباب التى دفعتنا لتأسيس الحملة رغبتنا فى أن يكون هناك نظام ديمقراطى قائم على الحرية والعدالة الاجتماعية، كما أن حال البلد السيئ هو ما أدى بنا لأخذ تلك الخطة وخوض التجربة، والبرادعى وسيلتنا لعمل التغيير المرجو».

واستكمل حديثه: «نتائج الحملة مبهرة وفاقت توقعاتنا وننتظر المزيد، ولكن بالطبع واجهتنا صعوبات كثيرة فللأسف نحن غير قادرين على ممارسة دورنا بشكل كبير، ونعامل ونحاسب وكأننا قمنا بعمل إجرامى على الرغم من أنه واجب وطنى وقومى وحقنا الطبيعى، ولكن يمكن علشان أغلب الشباب خايفين وماشيين جنب الحيط». واستكمل حديثه قائلا: «لا أتوقع النتائج فنحن سعينا ولكن غير واثقين من إدراك النجاح الآن، فالتغيير لن يحدث فى يوم وليلة وانتخابات ٢٠١١ ليست نهاية المطاف».

وأضاف: «أوجه رسالة إلى كل الشباب لوسكت عن الحق فتعتبر خاين لبلدك لازم تتحرك ويكون لك دور، لو مش حنطالب بحقنا حناخده إزاى، فهناك من يريد فصل الشباب عن الحياة السياسية، ولذلك يجب أن يكون لنا دور ويكون لدينا صلاحيات أكثر».

أما عبدالرحمن يوسف، أحد مؤسسى الحملة الشعبية المستقلة لتأييد البرادعى رئيسا فقال: «إحنا مجموعة من الشباب هدفنا التغيير السياسى السلمى ونطالب بانتخابات حرة نزيهة فى مرحلة انتقالية، ووقع اختيارنا على البرادعى لأنه يمتلك مواصفات تؤهله لذلك، كما أن المصريين خاصة قطاع الشباب صدقوه ووثقوا به، كما نريد أن يكون من حق كل مواطن أن يختار ويحاسب ويعاقب من وقع عليه الاختيار فهذا يعتبر من مبادئ الحكم النزيه واعتبر الحملة خطوة إيجابية وجزءا من ظواهر عديدة للتغيير وقد تكون هناك نتائج إيجابية فى المستقبل القريب».

وعبدالرحمن الذى برز دوره فى الفترة الأخيرة هو نجل الشيخ يوسف القرضاوى، وبعكس محمود زميله فى تأييد البرادعى فإن عبدالرحمن كان مشاركا فى بعض فعاليات الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية».

حركة «حقى»: طلاب ضد لائحة ٧٩

إحدى الحركات الطلابية التى ذاع صيتها فى الفترة الأخيرة هى حركة حقى، التى تأسست منذ عامين بجامعة القاهرة على يد الطلاب الاشتراكيين، ثم انتقلت إلى باقى الجامعات المصرية. وعن الحركة وطبيعة نشاطها تحدث أشرف عمر، أحد مؤسسى الحركه: «أنا فى الأساس واحد من الطلاب الاشتراكيين، بدأنا فى التفكير فى تأسيس حركه طلابية تضم كل الطلاب أيا كانت انتماءاتهم السياسية ويشاركونا فى الدفاع عن حقوقهم، وتكون لديهم الفرصة فى التعبير وإبداء الرأى ولذلك قمنا بتأسيس الحركة».

وأضاف: «نهتم بالقضايا الطلابية ومشاكل التعليم وتعد حرية النشاط الطلابى، خاصة السياسى داخل الجامعة أهم مطالبنا الآن، فلائحة ٧٩ قيدت جميع الأنشطة الطلابية، خاصة السياسية، كما أن وجود ديمقراطية فى انتخابات الاتحادات الطلابية أحد أهم مطالبنا». واستكمل حديثه قائلا: «أكبر مشاكلنا هو وجود الأمن بكثافة وسيطرته داخل الجامعة، كما أن الطلاب بقوا خايفين يشاركوا فى أى نشاط طلابى، ومن خلال حركتنا نحاول تصحيح الخطأ ونزع الخوف من داخل الطلاب حتى يطالبوا بحقوقهم لعلنا نغير شىء».

وجهة نظر أخرى شرحها أسامة، الطالب بكلية الحقوق وأحد أعضاء الحركة الطلابية: «انضمامى للحركه يعتبر أول نشاط لى داخل الجامعة، لأنى لمست من أول يوم دخولى للجامعة الظلم والقهر من مدرجات مزدحمة، كتب باهظة الثمن، ترهيب الطلاب بواسطة الأمن وتقييد جميع الحريات فتحمست للانضمام كطالب يجب أن يكون لى دور فى تغيير الواقع وانضمامى لحركة حقى أفادنى كثيراً مابقتش أخاف من حد طالما إنى أطالب بحقى ومش حمشى جنب الحيط بعد الآن، وسأظل أقاوم القهر والنظام الفاسد وسأسعى لتغيير كل الأوضاع الخاطئة. وأضاف: «بدأنا بمطالب بسيطة ونجحنا فى تحقيق بعضها مثل دعم الكتاب الجامعى وواحدة واحدة سنحقق جميع مطالبنا».

نشطت حركة «حقى» فى عدة جامعات، ورغم أنها تدافع بشكل رئيسى عن طلاب الجامعة، فإنها لم تنفصل عن حالة «الحراك العام» المستمرة مع انقطاعات منذ بداية ٢٠٠٥. استطاعت «حقى» فى فترة قصيرة نسبيا أن تتواجد بشكل مؤثر بين الطلبة، خاصة فى جامعة حلوان، وبدأت مفردات من «تغيير لائحة ٧٩» و«الكتاب الجامعى المجانى حق للجميع» و«الطلاب مع العمال» فى الظهور، لتذكر البعض بتحالف الطلبة والعمال، وهى التحالفات التى مر على أحدثها أكثر من ٣٠ عاما، لكنها أثبتت فى كل مرة فاعليتها

أعد الملف شيماء عادل ورحاب حسنين - المصرى اليوم

Friday, October 22, 2010

محنة المعارضة فى مصر

آن الأوان أن نعترف بأن المعارضة فى مصر فى محنة شديدة. نعم، إنها كبيرة الحجم وواسعة النطاق، حتى لأكاد أقول إنها تضم الغالبية الساحقة من الشعب المصرى: فغالبية الشعب المصرى تتكون اليوم من رجال ونساء ساخطين، مرهقين، ويتساءلون عن اليوم الذى يمكن أن يزيل الله فيه كربهم ويكشف غمتهم، ويعرفون جيدا أن المسئولية عن هذا الكرب وهذه الغمة تقع على النظام الحالى.

بالإضافة إلى كبر الحجم واتساع النطاق، يمكن أن نصف المعارضة المصرية أيضا بأنها غالبية الصوت. يسمع صوتها الجميع، باستثناء حفنة صغيرة جدا من أصحاب الامتيازات الجالسين على قمة النظام، والذين يتمتعون بخيرات البلد. هذه الحفنة الصغيرة لا تسمع ولا تريد أن تسمع صوت المعارضة العالى. ولكن هذا الصوت العالى، كثيرا ما يبدو وكأنه أقرب إلى الصراخ الهستيرى منه إلى النقد أو المطالبة بالإصلاح. وهذا الصراخ الهستيرى هو نفسه من الأدلة على شدة المحنة التى تعانى منها المعارضة المصرية. لقد مر على المعارضة المصرية زمن كانت فيه تنادى فعلا بالإصلاح وبمطالب محددة، وتتكلم بلهجة أكثر هدوءا وأقل حدة (هكذا أتذكر المعارضة فى السبعينيات والثمانينيات، أى منذ ثلاثين أو أربعين عاما)، ولكن المعارضة المصرية تغيرت، وطريقتها فى الكلام لم تعد كما كانت.

هذه المحنة الشديدة التى تمر بها المعارضة فى مصر ليس من الصعب تفسيرها.

1ــ هناك أولا اختفاء أى بارقة أمل لدى المعارضين فى أن يتمكنوا من الوصول إلى الحكم، أو حتى الاشتراك فيه، لتنفيذ ما يعتقدون أنه إصلاحات ضرورية. الدولة الديمقراطية تعرف ما يسمى بـ«تداول السلطة»، فلا يحتكر فيها السلطة شخص أو حزب واحد إلى الأبد. ولكن كل الأمور فى مصر تسير على مبدأ أن السلطة أبدية، وأن الذى يصل إلى الحكم يعمل كل ما فى وسعه للبقاء فيه إلى الأبد، وهذا هو ما يحدث بالفعل.

فى ظل تداول السلطة، يمكن مقارعة الحجة بالحجة، ويسعى أصحاب الرأى، والرأى المعارض، إلى تعبئة الناس فى صفهم. ولكن فى ظل احتكار السلطة يصاب المعارضون باليأس، ويفقد الناس بالتدريج ثقتهم بجدوى المعارضة أصلا. وإذ أصاب اليأس المعارضين وأنصارهم، ما أسهل أن يتحول النقد إلى سباب، وأن تتحول المطالبة بالإصلاح إلى صراخ هستيرى.

2ــ وإصرار الحكام على احتكار السلطة يصيبهم بالغلظة والقسوة فى معاملة معارضيهم، وكل من يشتبه فيه الوقوف إلى جانب المعارضة. والقسوة والغلظة تزدادان فى الحكام مع مرور الزمن بسبب اعتيادهم الجلوس على مقاعد الحكم، وطول عهدهم بما تمنحه لهم السلطة من امتيازات وبحبوحة العيش، فلا يتصورون كيف يمكن أن يأتى غيرهم ليحل محلهم، أو أن ينتقلوا هم إلى مقاعد المعارضة.

ومع طول عهدهم فى الحكم يزداد عدد المستعدين لخدمتهم، ولو لمجرد الحصول على مكافآت مادية سخية، بل ويصبح لديهم عدد كبير من الأشخاص المستعدين للقيام بمهمة ضرب المعارضين بل وتعذيبهم إذا لزم الأمر. وهذا يصيب المعارضين وأنصارهم بالخوف، فيزدادون ضعفا على ضعف.

3ــ والقانون غائب غيابا يكاد يكون تاما. بل لقد كف النظام عن التظاهر بوجوده. رجال الشرطة لا يحمون إلا الممسكين بالسلطة، ولا يقبضون إلا على من يغضب الحكام والقضاء يأتمر بأمرهم (أو هكذا يتحول الأمر بالتدريج)، فإذا حدث ووقف القضاء ضد أصحاب السلطة، تم تجاهل الحكم وكأنه لم يكن.

نعم، هناك جميعات لحقوق الإنسان، وهناك مراسلو الصحف والإذاعات الأجنبية، ولكن هذه الجمعيات محدودة القدرة وقليلة الموارد، ومن ثم اعتادت الحكومة تجاهل احتجاجاتها، والمراسلون الأجانب لهم تفضيلاتهم الخاصة وفقا لدرجة الأهمية التى يحتلها المعارض لدى الحكومات الأجنبية ووسائل إعلامها. فأهمية المعارض فى نظرهم لا تتوقف على صدق تعبيره عن مشاعر قومه، بقدر ما تتوقف على رضا الدوائر الأجنبية عنه. فإذا كان المعارض مثلا قد احتج على موقف الحكومة المصرية من معاملة الإسرائيليين لأهل غزة، فعاملته الحكومة المصرية بقسوة زائدة، لم يرد ذكر هذه المعاملات فى الجرائد والإذاعات الأجنبية مراعاة لمشاعر الإسرائيليين، وهكذا. سعيد الحظ إذن ذلك المعارض الذى يرضى عنه شعبه ووسائل الإعلام الأجنبية فى نفس الوقت، وهو شىء نادر الحدوث.

4ــ والنظام الحاكم يتلقى، فى معاملته القاسية للمعارضة المصرية، دعما قويا من بعض الحكومات الأجنبية، بالمال والسلاح ووسائل التدريب على طرق التعامل مع المعارضة، بما فى ذلك وسائل التعذيب. فالذى يخشاه النظام فى الحقيقة، ليس غضب شعبه، بل غضب القوة الأجنبية الراعية له، والتى هى سبب وجود هذا النظام أصلا. قد تتظاهر هذه القوة الأجنبية بأنها تناصر الديمقراطية وحرية الرأى، فتصدر عنها من حين لآخر تصريحات تحتوى على احتجاج مؤدب على ما تتعرض له المعارضة من قهر، والانتخابات والاستفتاءات من تزوير، وتطالب النظام بأن يصبح أكثر ديمقراطية فى المستقبل. ولكن النظام الحاكم يعرف جيدا قيمة هذه التصريحات، وأن أصحابها لا يعنون فى الحقيقة ما يقولون. وهم يبدون للنظام فى الخفاء من التأييد والدعم ما يخفونه فى تصريحاتهم العلنية ومن ثم اعتاد رجال النظام أن يتعاملوا مع هذه التصريحات بما تستحقه من لا مبالاة. انهم يعرفون وظيفتهم الحقيقية فى خدمة هذه القوة الخارجية، ويعرفون ما الذى يعجبها فى الحقيقة وما لا يعجبها، وما الذى يمكن أن يكافأوا عليه وما الذى يعرضهم فعلا للغضب.

5ـ كل هذا يزيد المعارضة المصرية ضعفا على ضعف فالخصم قوى وقاسٍ، وهو مدعوم من الخارج بقوة لا تقل قسوة، واختصامه غير مجدٍ، سواء أمام القضاء الداخلى أو أمام الرأى العام الخارجى. ولكن مما يزيد محنة المعارضة المصرية شدة، ما طرأ على جمهور المصريين أنفسهم من تغير. فالمصريون منذ زمن ليس بالقصير يعانون أزمات اقتصادية شديدة: الدخل قليل، ولا يزيد إلا ببطء، بينما الأسعار ترتفع بمعدلات كبيرة، والبطالة تزداد وتنتشر بين المتعلمين، والعثور على وظيفة تلائم ما حصله الشاب أو الشابة من تعليم أصبح من أشق الأمور. وخدمات التعليم والصحة والمواصلات التى كانت تقدمها الحكومة، يتدهور مستواها باستمرار، وهذا يستوجب اقتطاع جزء متزايد من الدخل، الذى لا يزيد أصلا إلا ببطء شديد، لتعويض هذا التدهور فى التعليم، بالانفاق على الدروس الخصوصية، وفى الصحة، باللجوء إلى العيادات الخاصة، وفى المواصلات يضطر الناس إلى تعريض أنفسهم وأولادهم وبناتهم لحوادث سيارات وقطارات يقودها رجال (وأحيانا صبية) ليسوا أقل معاناة منهم... الخ. كل هذه الهموم لا تترك للناس، متعلمين كانوا أو غير متعلمين، طاقة يمكن أن يوجهوها للاهتمام بالقضايا الوطنية أو السياسية القائمة، إذ لم يعد لدى معظم المصريين لا الوقت ولا الاستعداد النفسى للتفكير فيما يتجاوز مشاكل الحياة اليومية المتجددة باستمرار، والتى تتطلب مواجهتها جهود جبارة بل وأحيانا أعمال بطولية. هكذا يجد رجل المعارضة نفسه يوجه الكلام لأشخاص، قد يتعاطفون حقا مع ما يقول، ولكنهم لا يجدون فى أنفسهم القوة الكافية لمناصرته والوقوف بجانبه. المعارض إذن، بالإضافة إلى كل ما يواجهه من قسوة النظام، لا يجد من شعبه إلا أفرادا منهكى القوى، استبد بهم عذاب المعيشة اليومية، وأنفقوا كل قواهم فى توفير الضروريات لأولادهم وبناتهم، فلم يبق لديهم شىء يقدمونه للوطن.

6ــ ولكن دعنا نعترف أيضا بأن المعارضة المصرية، بالإضافة إلى كل ذلك، قد أصابها ضعف وهزال من نوع آخر، لا تريد الاعتراف به، وهو الضعف الفكرى. فالكلام الذى تقوله المعارضة قديم، ولا يتغير مع تغير الظروف والأحوال. ورغم أن المعارضة تبدو وكأنها تتكون من أحزاب كثيرة، ذات مواقف فكرية مختلفة، فالحقيقة أنه ليس من بينها حزب واحد يقول كلاما لم يكن يقوله بحذافيره منذ أكثر من أربعين عاما. ولكن هذا الضعف الفكرى الذى تعانى منه المعارضة المصرية، من الأهمية والخطورة بحيث يحتاج وحده إلى مقال مستقل

بقلم جلال أمين

إدوار الخراط: لا أكتب عن الأقباط ولهم.. بل أكتب للمصريين

لكتابة عن إدوار الخراط لا يمكن أن تستقيم إلا بطرح أسئلة حوله، وحول أعماله..

قرأت كثيرا له فلم أستطع تصنيف أعماله هل هى أدب أم فلسفة؟.. لكن ما الفرق بينهما؟

وكنت دائم السؤال: لماذا يحاط حوله كل هذا الغموض.. غموض فى الكتابة، وآخر فى الحياة؟

ولماذا بعد كل هذه السنوات التى أبدع فيها «حيطان عالية»، و«ساعات الكبرياء»، و«يقين العطش»، و«رامة والتنين»، و«صخور السماء»... لم يحصل على ما يستحق؟

منذ شهور، وقبل أن تسوء حالته الصحية، ذهبت إليه بهذه الأسئلة وغيرها، وفوجئت به يقول: «لم أحقق شيئا، وعلى الرغم من صدور عدة كتب لى، فيبدو أنى ما زلت أقف على شاطئ بحر خضم لا نهاية له».

عرفت من الكاتب الكبير سعيد الكفراوى أن حالته الصحية فى تراجع. وكالعادة اشتكى بعض زملائه من إهمال الوسط الثقافى، ونسيان السؤال عنه، مؤكدين تأثيره القوى فى تيار الحداثة العربية، واهتمامه البالغ بكل ما هو جديد. كلامهم، خاصة الكفراوى، جاء بنوع من الحسرة على الخراط الذى كان «ملء السمع والبصر». لكن هذا هو حال دنيا الناس، فالنسيان تيمتها الرئيسية.

منذ يومين اتصلت بالخراط لأطمئن عليه، وسألته عن صحته، فقال: «الحمد لله تمام. وعكة صحية وهتروح لحالها».

هل انتهيت من مجموعتك القصصية «حكايات الأفندية»؟
ــ لا. أحضر بعضها الآن. العمر طويل. ستنشر قريبا.

تجاوزت الثمانين عاما، فهل حققت ما تريده؟
ــ لا. لم أحقق شيئا، وعلى الرغم من صدور عدة كتب لى، فيبدو أنى ما زلت أقف على شاطئ بحر خضم لا نهاية له، هناك بالطبع قدر من التحقق مع قدر أكبر بكثير من الطموح لم يتحقق بعد.

وما الذى لم يتحقق بعد؟!
ــ كثير. ما زال هناك من الأفكار الكثيرة التى تختمر فى الذهن، ولم تجد بعد طريقة إلى الكتابة الفعلية، ولكن ذلك هى الطريقة التى أكتب بها باستمرار: فترة احتشاد واختمار طويلة لا تكاد تنتهى ثم تدفق فى الكتابة سريعا ومتوهجا.

بعد كل هذا العمر الطويل فى الكتابة هل تحس بالرضا؟
ــ لم أحس بالرضا أو الغضب، فالرضا ليس من خصائصى الشخصية.

لماذا تبدو كتاباتك غامضة وصعبة على الفهم؟
ــ أرجو ألا تكون كتاباتى غامضة، المهم أنها غير سطحية، وأنا من الكُتّاب الذين يعنون بعمق الفكرة، أما الغموض يأتى من قصور فى فكر من يقرأ أعمالى.

لعل هذا ما يبعد النقاد عن أعمالك؟
ــ هذا غير صحيح، هناك قلة فقط من النقاد لا تتعرض لأعمالى، ولكن هناك من اهتم بها، وكتب عنها أهمهم الكاتب الراحل بدر الديب.

لماذا يلاحظ قلة إنتاجك الآن؟
ــ بعد الشر، لماذا تقول ذلك، أنا لا أوافق على هذه الملاحظة.

هناك اتهام وجه لك بأنك قبطى تكتب عن الأقباط وللأقباط فقط، تعليقك؟
ــ أرفض أن يوجه لى اتهام من الأصل، كتاباتى تنم عن أنها كتابات مصرية وإنسانية أساسيا، وإذا كانت الشخوص والأحداث تدور فى أجواء قبطية فلما لا؟ أليست هذه الأجواء والشخوص من صميم الواقع الإنسانى، ثم إن كتاباتى لا تقتصر على هذا الجانب وحده دون غيره، أجدها تتسع لجميع جوانب الحياة المصرية والإنسانية فيما أرجو وآمل على الأقل.

وأنا أوضحت فى كتابى أنشودة للكثافة: «أنى عربى مصرى قبطى فى آن وبلا انفصال، والثقافة العربية الإسلامية مقوم أساسى من مقومات حياتى الفردية أو الجماعية على السواء وباعتبارى قبطيا، وهو أمر مختلف إلى حد ما عن كونى مسيحيا، فإنى أكتب نصا أتصور أنه مشرب تماما ــ عن وعى أو عن غيره ــ بيقين ولا أقول عقيدة، بأن المطلق إنما يتجسد فى الإنسان، وبأن الخالد والعرضى هو واحد فى آن، وأن الإنسان هو المطلق دون قسمة، وأن التوحد بين الإنسانى والقدسى مكتمل.


كتابة مثاليةبخصوص العلاقة بين المسلمين والأقباط، أجد أن كتاباتك عن هذه العلاقة مثاليا بعض الشىء؟
ــ أرفض هذا الطرح الذى يحمل الكثير من التشاؤم. وما زلت أعتقد أن مصر بلد التعايش والتسامح. ولا تنسى أننى فى «يقين العطش» عرضت ما يعانيه المسيحى من الإرهاب (قالوا لابد نرحل، لماذا نرحل؟ لن أترك أهلى وناسى وبلدى، لن أترك لهم عظم أجدادى فى تُرب العائلة، ليست هذه أول مرة يا بنتى ــ يقصد رامة المسلمة ــ لم نترك لهم البلد عندما كانوا يعلقون فى أعناقنا صلبان الخشب الثقيلة، ويرغموننا على لبس الزنار، وركوب البغلة بالمندار، أنت أثرية وتعرفين التاريخ، كفاية الذين رحلوا، هاجروا، كفاية سرسوب الدم الذى نزف من أرض الوطن، وانسكب هدرا فى الغربة).

ولماذا تصر على أن الإبداع بلا حدود؟
ــ لأن الإبداع يكسر الجمود، المبدع بطبيعته طليعى، وبالتالى لا ينصاع للتقاليد الاجتماعية السائدة، فهو يحللها لإرساء قيم أجمل وأفضل، وهذه مهمة الفنان الحقيقى. وأرى أنه لا يمكن أن يحد من حرية المبدع إلا حرية النقد بشرط توافر الفهم والمعرفة والاستناد لدراسات عميقة وحسن النية لما يقرأ وليس التربص والترصد للأخطاء.

وليس من حق أى شخص قمع الإبداع، من حقه نقد ما يشاء سواء كان على أسس من المعرفة والفن أو لم يكن... وكما يقال هناك ناقدان عظيمان هما الزمن، والقراء، وهما فى النهاية يصنعان الإبداع، وأحيانا هذا الجمهور والزمن يستنقذان من التاريخ الأدبى كنوزا مهملة كما حدث مع الشاعر الإنجليزى الميتافيزيقى «دون» بعد صمت استمر قرونا عديدة، فأصبح النقاد والقراء يكتشفون مدى ثراء هذا الشاعر.

دعوة للتكفيربسبب تأكيدك على حرية الإبداع اتهمت بأن كتابك «شعر الحداثة فى مصر» يدعو للتكفير، لأنه يتضمن عبارات فاحشة?
ــ هذه تهمة سيئة النية، وغير جديرة بالالتفات. القضية أُثيرت فى سياق معركة سياسية أخذت الدين ستارا لها، والشعر لا يقرأ بانتزاع كلمة هنا، وكلمة هناك وتشويه معناه الأصلى، فالشعر له أسلوب خاص فى التلقى ليس أسلوب «التصيد» للمفردات المنتزعة من سياقها الشعرى، والمسألة أكبر من كتاب طرح فى الأسواق.

وهل مصادرة الإبداع مجرد ظروف طارئة أم مناخ عام نعيش فيه؟
ــ هذا مناخ عام سائد يدعو للأسف والحزن والغضب، لكن هذا ليس معناه أن يتوقف الكُتاب، وأن يكون هناك رقيب على أعمالهم، بالعكس فالفن والحرية صنوان لا يفترقان، والحرية فى الفن لعلها هى الحرية الوحيدة المتبقية لنا، ولن ينال المكفّر منها.

ألا تجد أن هذا يقع فى منطقة الفلسفة؟
ــ إذا لم يكن الإبداع مستندا إلى رؤية فلسفية؛ فإنه يصاب أو يعتريه الهزال والجمود.

لماذا لا توجد نظرية عربية فى النقد الأدبى؟
ــ النقد ليس له حدود جغرافية.. وهذا سؤال مغلوط، فهل يوجد فى الأساس نظرية فرنسية أو يابانية لكى نطالب بنظرية عربية، والنظرة العنصرية الضيقة لا مجال لها فى العملية الإبداعية.

ولكنك أبدعت عدة مصطلحات نقدية مثل الحساسية الجديدة والكتابة عبر النوعية؟
ــ هذه مجرد مصطلحات نقدية، ولا تشكل نظرية.

الكتابة عبر النوعية

متى بدأت التفكير فى هذا المصطلح، وهل هناك كتابات فى الأدب المصرى تشتمل على هذا الاتجاه؟
ــ كان ذلك قبل صدور «رامة والتنين» بسنة واحدة أى عام 1979، هناك كتابات الراحل بدر الديب والراحل الذى فارقنا مبكرا يحيى الطاهر عبدالله، ولعل بعض كتابات بشر فارس تدخل أيضا فى هذا المفهوم، ولو رجعنا إلى الأعمال الكاملة ليحيى الطاهر عبدالله التى صدرت عن دار المستقبل العربى وقرأت القصص القصار الأخيرة التى كتبها فى مرحلة أخيرة من عمره لوجدت أنها قصص بديعة تجمع بين السرد والشعر وبشكل مبكر ورائع لفتنى أنا نفسى إلى ما كنت أفعل حتى منذ أيام كتابى «حيطان عالية» عندما كنت أخرج من السرد فجأة إلى نوع من الفانتازيا الشعرية أو الحلم السريالى المخالف لكل موضوعات القصة القصيرة التى كانت تكتب فى ذلك الوقت.

وماذا تعنى بالكتابة عبر النوعية؟
ــ إنها الكتابة التى تتمثل منجزات الأنواع المكرسة مثل الشعر والمسرح والرواية والقصة وما إلى ذلك، وكذلك هى الكتابة التى تتمثل منجزات التقنيات السينمائية أيضا، بل أكثر من ذلك منجزات الفنون غير القولية مثل النحت والتصوير والموسيقى، فى الكتابة عبر النوعية نلاحظ العناية بالجرس الصوتى وبالنسق الصوتى، كما يحدث فى الأعمال الموسيقية نفسها، ولا أعنى أن يقوم المبدع بإقحام إحدى منجزات أو تقنيات فن ما أو نوع أدبى ما بجانب الأنواع الأخرى بحيث ينشأ نوع من التجاور فقط أو النتوء أو النشاز، بل أعنى شيئا صعبا ونادرا أيضا هو تمثل واستيعاب هذه المنجزات المختلفة من الأنواع الأخرى ومن الفنون الأخرى تمثلا واستيعابا تامين ثم صهرها وإدراجها فى هذه الكتابة بحيث يتكون منها شىء لا أدرى هل أسميه نوعا جديدا؟ إنى أتردد قليلا فى أن أسميه نوعا جديدا وإن كنت لا أزال أرى أن هناك فوارق أو خصائص تحسم هذه المسألة أو المشكلة، بمعنى أنه حتى مع استيعاب وتمثل منجزات هذه الفنون الأخرى إذا كانت السردية غالبة على النص فهو ينتمى إلى القص أو الرواية، وإذا كانت الإيقاعية غالبة على النص ولو كان فيه سرد أو غيره من منجزات الفنون الأخرى فهو شعر، أما إذا غلبت الحوارية على النص فهو مسرح، وإذا غلبت المشهدية على النص فهو سينما.

قال أحد النقاد إن «النص الخراطى تضخم فيه حضور المكان فى حين تراجع الزمن.. تقلص السرد وتضخم الوصف».. أليس ذلك بالضبط ما يحدث فى اللوحة التشكيلية؟.. فلماذا لم تسلك طريق الفن التشكيلى خاصة أنك شغوف به؟
ــ ما قاله التونسى محمد الخبو فى دراسته عن كتابى «إسكندريتى» يكفى ويبين أن كتاباتى لوحات تشكيلية. وتمنيت لو لم أكن كاتبا أن أكون رساما أو نحاتا ولعلّى على نحو ما مارست التصوير بشكل آخر فى كتاباتى الروائية والشعرية حيث اللغة أحيانا تقوم وحدها وبما تحمله من طاقة مقام اللون بكل أطيافه ودرجاته، من الزعفرانى إلى اللازوردى ومن القانى اليانع إلى الأبيض الساطع أو تقوم مقام مادة النحت الصلبة الصوان أو البازلت أو الناصعة المرمرية، وحيث يحتل المشهد البصرى أو التجسيم الذى يكاد يكون نحتيا مكانة لعلها أولى من هذه الكتابات.

سامح سامى - الشروق

Thursday, October 21, 2010

القوة الثالثة

شهدت مصر حراكا سياسيا جديدا منذ منتصف هذا العقد لم يسفر عن تحولات حقيقية فى بنية النظام السياسى، ولا يبدو أنه قادر على إنجاز هذه التحولات، رغم دوره المؤكد فى تحريك الكثير من المياه الراكدة، ونجاحه فى نشر ثقافة احتجاجية داخل المجتمع المصرى.

والحقيقة أن التفاؤل، الذى شهده قطاع واسع من النخبة المصرية فى أعقاب تأسيس حركة كفاية، سرعان ما تراجع بعد اختفاء الحركة، وعاد الأمر وتكرر جزئيا مع الدكتور محمد البرادعى حين تحول التفاؤل الجارف بالرجل إلى تفاؤل حذر، وتحول الأخير إلى شكوك بعد أن دافع عن أفكار بدت بعيدة عن المجتمع المصرى، كالعصيان المدنى، الذى لم يكن طريق كثير من المجتمعات نحو التحول الديمقراطى، ثم عقد «توقيعات مشتركة» مع الإخوان المسلمين بصورة أبعدته عن أن يقدم نفسه كبديل توافقى تقبله مؤسسات الدولة كمشروع هدفه إصلاح النظام لا هدمه.

والمؤكد أن موقف البرادعى كان فيه كثير من النبل، الذى ربما دفع ثمنه بعد ذلك حين راهن على الجماهير واحترمها، واعتبر أن عليها دعم مشروعه فى التغيير والإصلاح، وهو ما لم يحدث بالصورة الكافية، لأسباب لا تتعلق بخنوعها أو استسلامها للوضع القائم، إنما لأن خطاب التغيير وأساليبه لاتزال بعيدة عن المجتمع المصرى.

وقد أدى بقاء قوى الاحتجاج الجديد خارج إطار الشرعية القانونية إلى تبنيها كثيراً من الأفكار الحالمة والتصورات المثالية حتى أصبح كثير مما تقوله لا يخرج عن خطاب التمنى، فهى تتمنى أن تثور الجماهير، وتتمنى أن يتغير النظام، وتتمنى أن تقضى على التوريث، وتتمنى أن تتوحد المعارضة، أما الواقع، فظل بعيدا عن كل هذه الأمنيات.

وانتعش هذا الخطاب فى ظل مناخ محفوف ليس فقط بمخاطر أمنية، إنما أيضا بغياب أى قواعد أو قوانين تحكم العملية السياسية، وفرضت على أى ممارس للعمل السياسى ارتكاب أخطاء قد لا تختلف كثيرا عن الأخطاء التى يرتكبها الحزب الحاكم، ناهيك عن أن هذا المناخ الرخو جعل انشغال القوى السياسية بمشاكلها ومؤامراتها الداخلية أكبر من انشغالها بمشكلات الوطن، وجعل اهتمامها بالحضور الإعلامى أكثر من الحضور السياسى الحقيقى.

والمؤكد أن الفخ الكبير الذى وقع فيه كثير من القوى السياسية الجديدة، يتمثل فى استسلامها لثقافة وخطاب «القوى الخارجة» عن الشرعية، فهى ترفض الأوضاع القائمة وتغمض عينيها وتعتبرها كأنها غير موجودة، أو تعتبر النظام مجرد عشرة أو مائة شخص وأن تغييره أو إصلاحه سيجرى بجرة قلم أو بثورة وهمية لن تأتى، وتتصور أيضا أن الغالبية الساحقة من الناس مع التغيير، فى مقابل قلة قليلة من أصحاب السلطة والثروة الفاسدين، وتنسى أو تتناسى أن بقاء أى نظام غير ديمقراطى فترات طويلة فى الحكم لا يرجع فقط إلى أنه يمتلك سطوة أمنية، إنما لأن أعداد المستفيدين والمتواطئين معه أكبر من الراغبين فى تغييره.

ولعل الاعتراف بقوة الطرف المقابل لقوى التغيير، أى النظام، يمثل البداية الصحيحة لفهم معادلات التغيير المقبلة، بعيدا عن الأمنيات الطيبة والخطب الرنانة، صحيح أن هذه القوة بها صراعات داخلية عميقة، وتلعب بمهارة على «توازن الضعف» داخل المجتمع، إلا أنها الطرف الأقوى، الذى انتصر على مدار ثلاثين عاما فى كل المعارك، التى خاضها مع المعارضة بكل أشكالها.

ولعل اللحظة الحالية التى يمر بها النظام السياسى المصرى فيها كثير من التفرد والخصوصية، فلأول مرة يكون النظام على أعتاب انتقال للسلطة، وفى الوقت نفسه لا يعرف الناس اسم رئيس الجمهورية المقبل، صحيح أن جمال مبارك هو المرشح الأكثر تداولا فى أروقة الحزب الحاكم، إلا أنه لم يعلن عن ترشحه بشكل رسمى ولم تقبله مؤسسات الدولة السيادية بشكل علنى أو مستتر ( ولم ترفضه أيضا)، فى حين اعتبرت قوى المعارضة الجديدة أنه غير موجود وتحدثت عن توريث السلطة، والـ ١٠ أو ١٠٠ شخص، الذين يحكمون مصر ويلتفون حول جمال مبارك ونسيت أن التحالف المشتاق للسلطة أو الذى هو جزء منها أو الذى يخافها، سيمثل قوة دعم حقيقية لأى مشروع سياسى مقبل من داخل النظام، سواء كان سيقوده جمال مبارك أو قائد فى الأجهزة السيادية.

والحقيقة أنه لمواجهة هذا الوضع، لابد أن تكون نقطة الانطلاق الأولى هى القبول بأن هناك تحالفاً قوياً فى السلطة يقوده جمال مبارك ولا يمكن تجاهله، وتظل مشكلة هذا التحالف أنه يعتمد على أجهزة الدولة ولا يمكنه النجاح فى أى انتخابات رئاسية دون مساعدة مؤسسات الدولة وأجهزتها.

والسؤال المطروح: هل يمكن أن نفك عرى هذا التحالف بين الدولة ومشروع التوريث، بحيث ينتقل من مشروع توريث إلى مشروع سياسى له توجهاته السياسية اليمينية؟ فى الحقيقة يمكن إحداث هذا الفصل عبر «القوة الثالثة»، التى تقع فى منطقة وسط بين قوى التغيير الجديدة، وبين قوى التوريث، وأقصد بها مؤسسات الدولة الرئيسية، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، بجانب مؤسسات مثل وزارة الخارجية والسلطة القضائية، وهنا يمكن لهذه القوة أن تفصل بين الدولة ومشروع التوريث من أجل تحويله إلى مشروع ضمن مشاريع أخرى، عبر فترة انتقالية قد تستمر عاماً.

والحقيقة أن أهمية هذا التصور أنه يخرج أولا المؤسسات السيادية من دور وحيد تكرر فى الفترة السابقة حين حرضها البعض على أن تكون بديلاً أو تضع فيتو على مشروع التوريث، وهو أمر لن يضمن، فى حال حدوثه، أن يكون هذا البديل ديمقراطيا حقيقيا، فى حين أن سيناريو «القوة الثالثة» يعنى أن هناك من يؤمن بأنه يمكن تحويل الاحتقان الخطر والمتفجر، الذى سيثيره مشروع التوريث إلى نقطة انطلاق نحو التحول الديمقراطى، وهذا لن يتم إلا إذا قامت بعض التيارات السياسية الجديدة بالاعتراف المتبادل بينها وبين قوى النظام، وتقر بأنها راغبة فى التنافس الحر والديمقراطى معه، وقادرة، فى ظل أى انتخابات حرة تحرسها القوة الثالثة، على هزيمته.

إن هذا الأمر، فى حال حدوثه، سيفرض على قوى المعارضة الجديدة الدخول فى قواعد الشرعية وحساباتها العاقلة، وتنسى أحلامها الاحتجاجية السابقة، فمصر لا تحتاج فقط متظاهرين يحتجون، إنما تحتاج أساسا عمالاً يعملون فى ظروف كريمة وعلماء ومبدعين، ونظاماً تعليمياً وإدارياً وصحياً كفئاً، وقضاء مستقلاً وصحافة حرة، وكل ذلك لن يبنى فقط من خلال ثقافة الاحتجاج.

إذا استطاع تيار من النخبة السياسية المصرية أن يكسر ثنائية البديل التلقائى للوضع الحالى (جمال مبارك أو جنرال) فى اتجاه الرهان على قوة ثالثة يقودها «سوار ذهب» (أحد القادة العسكريين السودانيين، الذين قادوا التحول الديمقراطى) مصرى، فإننا بذلك نكون قد أنجزنا خطوة جبارة فى سبيل تطور هذا البلد، ولكن الأمر يتطلب وجود بشر مازالوا يتحسرون بجد على وضعنا المتدهور، ويرغبون بجد فى إصلاح هذا البلد.

ليس عيبا أن نقول إن الشعب بحاجة إلى مساعدة مؤسساته الوطنية الكبرى من أجل بناء الديمقراطية، فهل هناك أشخاص أو مؤسسات مازالوا يفكرون فى أمر عام اسمه إصلاح هذا البلد؟.. نتمنى ذلك.

د. عمرو الشوبكى- Almasry Alyoum

amr.elshobaki@gmail.com

المصري اليوم» تنشر أحدث دراسة علمية عن مخاطر التغيرات المناخية على مصر (١-٥)

قبل أن تقرأ هذه الدراسة قم بزيارة إلى الإسكندرية أو رشيد أو دمياط أو أى مدينة ساحلية، وإذا كنت من سكان هذه المدن الرائعة، توجه إلى الشاطئ الهادئ للبحر الذى طالما عانق هواؤه رئتك وغسلت مياهه همومك، وجه نظرك للبحر واسأل نفسك «ماذا يحدث لو ارتفع سطحه متراً واحداً فقط» هذا ليس سؤالا عبثيا، لأن العالم كله يبحث عن إجابة للسؤال الذى كان خوفا مستقبليا وأصبح واقعاً حاضراً.

ما يخص مصر من هذا السؤال، شغل الدكتور خالد عبد القادر عودة، الجيولوجى المصرى المعروف، ثلاثة أعوام، قضاها العالم الذى يشغل نائب رئيس الفريق الجيولوجى العالمى ساهرا فى مكتبه الصغير فى كلية العلوم بجامعة أسيوط، أو متجولا على سواحل مصر، بيده أكثر من ٧٠٠ لوحة وصورة لأحدث خرائط الأقمار الصناعية للساحل المصرى، وخلص إلى نتائج خطيرة دفعت جامعة أسيوط لتقديم دراسته بالسطور التالية:

«إلى صناع القرار من السادة الوزراء، والمحافظين، ورؤساء الجامعات ومراكز البحوث، ورؤساء وأعضاء مجلسى الشعب والشورى، ورؤساء الهيئات والإدارات الرسمية التى تضع الخطط والاستراتيجيات فى مختلف أجهزة الدولة بجمهورية مصر العربية، وإلى منظمات وهيئات الأمم المتحدة المعنية بالتغيرات المناخية وحماية الدول النامية من مخاطر هذه التغيرات، تعلن جامعة أسيوط من منطلق مسؤوليتها العلمية والأدبية تجاه الأجيال الحالية والمقبلة من شعب مصر عن «أطلس مخاطر التغيرات المناخية على السواحل المصرية والسياسات الدفاعية الواجبة».

«المصرى اليوم» تنشر أخطر دراسة عن مستقبل مصر خلال السنوات القادمة فى ظل التغيرات المناخية.

دراسة بقلم - د. خالد عودة

فى غضون العشرين سنة الماضية تراكمت للمجتمع العلمى الدولى دلالات قاطعة بأن ثمة مؤثرات بشرية أحدثت ضررا فى المناخ، ورافق ذلك يقين راسخ لدى هذا المجتمع الدولى بشأن التغير المناخى المعاصر، وما يليه من تغيرات أكبر بكثير فى المستقبل. وقد انعكست درجة اليقين هذه بشكل واضح فى التقرير الأخير (الرابع) للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ «IPCC»، حيث جاء فى التقرير الدولى المشترك لصناع القرار أن تركيزات غازات الصوبة فى الجو مازالت فى ازدياد، وأن استمرار ارتفاع درجة الحرارة سوف يكون من شأنه توليد آثار إشعاعية سلبية على سطح الأرض، وأن المناخ قد تغير بالفعل خلال القرن العشرين، ومن المنتظر أن يستمر تغير المناخ فى المستقبل، حيث يؤدى إلى تغيرات بيئية واجتماعية واقتصادية وسياسية وصحية عظيمة الشأن، مع تعرض البلدان والمجتمعات الفقيرة والتنوع البيولوجى للمخاطر بصفة خاصة.

لقد أكدت الدراسات المستمرة منذ صدور التقرير الثالث للهيئة الحكومية الدولية عام ٢٠٠١، وحتى نوفمبر ٢٠٠٧ تاريخ صدور التقرير الرابع - أن الإحدى عشرة سنة من الإثنتى عشرة سنة الأخيرة بين عامى ١٩٩٥ و٢٠٠٦، قد شهدت أكثر السنوات حرارة منذ أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان، وأن المتوسط السنوى العالمى لدرجة الحرارة خلال القرن العشرين (١٩٠٦ – ٢٠٠٥) قد شهد ارتفاعاً قدره ٠.٧٤ درجة مئوية، وأن ارتفاع حرارة المناخ قد عم أنحاء الكرة الأرضية - إلا أن نصف الكرة الشمالى قد اختص بنصيب أكبر من هذا الارتفاع حيث زاد المتوسط السنوى لدرجة حرارته فى الخمسين سنة الأخيرة عن أى خمسين سنة سابقة منذ نحو٥٠٠ عام.

ومنبع القلق أن تصاعد درجة الحرارة ترتبط به ظاهرة خطرة، وهى ارتفاع منسوب سطح البحار والمحيطات، ومرجع هذه الزيادة هو التمدد الحرارى لمياه المحيطات والبحار، بالإضافة إلى ما تسبب فيه الاحترار العالمى من ذوبان بعض الثلوج والقمم الجليدية فى القارات، بالنسبة للمسطحات الجليدية الكائنة بالمناطق القطبية، فقد أظهرت نتائج التحليلات البيانية للمعلومات الواردة بالأقمار الصناعية منذ عام ١٩٧٨ أن المسطحات الممتدة بالقطب الشمالى قد انكمشت بمعدل ٠.٢٧ % سنوياً، وأن هذا المعدل قد زاد فى فصول الصيف إلى ٠.٧٤ % سنوياً، كما ساهمت الكميات المفقودة من هذه المسطحات فى جرينلاند والقارة القطبية الجنوبية فى رفع مستوى سطح البحر خلال الفترة من ١٩٩٣ إلى ٢٠٠٣.

سيناريوهات متشائمة وآثار مدمرة

طبقا للدراسات والبيانات التى جاء بها التقرير الرابع للهيئة الحكومية الدولية المعنية بشؤون المناخ «IPCC»، الصادر فى ديسمبر ٢٠٠٧، فإن درجة الحرارة سوف تزداد فى السنوات العشر الأخيرة من القرن الواحد والعشرين (٢٠٩٠ – ٢٠٩٩) بمتوسط يتراوح بين ١.٨ درجة مئوية فى الحد الأدنى للانبعاثات (وهو السيناريو الأكثر تفاؤلا)، و٤ درجات مئوية فى الحد الأقصى للانبعاثات (وهو السيناريو الأكثر تشاؤما) عما هى عليه فى نهاية القرن العشرين (١٩٨٠ – ١٩٩٩)، وأن هذا الارتفاع فى درجة الحرارة سوف يتسبب فى انقراض الأنواع وتحطم الشعب المرجانية كما يتوقع اختفاء ٤٠ – ٧٠% من الأنواع حول العالم. كذلك التمدد الحرارى لمياه البحار فى نهاية القرن الواحد والعشرين سوف يتسبب وحده فى رفع منسوب سطح البحر بمقدار يتراوح بين ١٨ – ٣٨ سم فى الحد الأدنى، و٢٦ – ٥٨ سم فى الحد الأقصى عما هو عليه خلال الفترة من ١٩٨٠ – ١٩٩٩.

إلا أن تقديرات الهيئة الحكومية الدولية لمنسوب سطح البحر لم تتضمن الزيادة المضطردة فى معدلات ذوبان المسطحات الجليدية فى كل من جرينلاند والقارة القطبية الجنوبية، ولم تشمل كذلك هذه التقديرات التغذية الرجعية لثانى أكسيد الكربون فى الجو، ووفقا لهذه الاعتبارات، فإن درجة ارتفاع المتوسط العالمى لسطح البحر قد تصل إلى مستويات خطيرة فى مطلع القرن القادم، وهو ما تشير إليه عدة تقارير وبحوث لهيئات ومنظمات علمية حكومية وغير حكومية، من بينها تقرير فريق جامعة شيفيلد بإنجلترا الذى يفيد بأن المتوسط السنوى العالمى لدرجة الحرارة سوف يزداد بنحو أربع إلى خمس درجات مئوية بحلول عام ٢١٠٠، وأن الثلوج ستصل إلى نقطة اللاعودة فى اتجاه الذوبان الكامل لكتلة جرينلاند خلال الألفية القادمة.

فى السياق نفسه، أكدت دراسة للفريق الألمانى (رولينج وزملائه) المنشورة فى مجلة الطبيعة فى ١٧ ديسمبر ٢٠٠٧ تفيد بأن الحد الأقصى لزيادة منسوب سطح البحر قد يتجاوز ١.٦ متر، أى ضعف التقديرات التى جاءت فى التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية، وفى كل الأحوال تنطلق هذه الدراسة من حقيقة لا مجال لإنكارها علميا، وهو أن سطح البحر سيرتفع مع نهاية القرن الحالى إلى متر واحد أو أكثر، مما يضع الدول – وعلى رأسها مصر - التى يقع جزء كبير من أراضيها فى مستويات منخفضة عن سطح البحر فى تحد حقيقى، هو مواجهة هذه المخاطر اليقينية، طبقا لتقارير اللجان الدولية والبنك الدولى والمؤسسات العلمية المختلفة.

مصر.. أكثر دول العالم تضررا

فى دراسة علمية للبنك الدولى أعدها مجموعة من العلماء والخبراء فى فبراير٢٠٠٧ على نحو٨٤ دولة من الدول النامية لمعرفة تأثير ارتفاع منسوب سطح البحر على هذه الدول باستخدام جميع المعلومات الواردة من جميع المحافل والمعاهد العلمية، ومراكز البحوث الدولية، ووكالات الفضاء، ومعاهد علوم البحار، والمراكز الدولية لعلوم الأرض، والمراكز الدولية للزراعات الاستوائية، ومعاهد سياسات الغذاء الدولية، ومراكز بحوث البيئة الدولية - بالإضافة إلى تحليلات لنظام المعلومات الجغرافى جاء فى هذه الدراسة أن تأثير هذا الارتفاع على السكان والزراعة والأراضى الرطبة والأراضى الآهلة بالسكان والخسائر الاقتصادية سيكون أشد ضرراً وأكثر قسوة فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عنه فى جميع دول العالم النامية الأخرى، وأن جمهورية مصر العربية هى أشد الدول النامية تعرضاً للخسائر فى حالة ارتفاع منسوب سطح البحر متراً واحداً، وأن هذه الخسائر تشمل نزوح نحو١٠ % من إجمالى سكان الجمهورية من أراضيهم ومدنهم.

وأنها تتركز فى دلتا نهر النيل، يلى ذلك دولة الإمارات العربية حيث تشمل الخسائر نزوح ٥% من إجمالى عدد السكان، تليها ليبيا ثم المملكة العربية السعودية ثم دولة قطر. كذلك فإن جمهورية مصر العربية هى أشد الدول تعرضاً للأضرار من حيث الأرض الزراعية والنشاط الزراعى، حيث تؤثر زيادة منسوب المياه متراً واحداً (وليس ثلاثة أو خمسة) فى نحو ١٢.٥% من جملة المساحة المزروعة فى مصر.

أما من حيث المساحات الآهلة بالسكان فتصل الأضرار إلى نحو ٦% من جملة هذه المساحات فى جمهورية مصر العربية وليبيا، يليهما تونس ودولة الإمارات العربية فى حالة زيادة منسوب المياه متراً واحداً. وتأتى دولة قطر فى المقدمة من حيث الأضرار التى تلحق بالأراضى الرطبة حيث تتضرر نحو ٢٢% من جملة مساحات هذه الأراضى، تليها ليبيا بنسبة ١٦%، ثم الكويت بنسبة ١٠%، ثم تونس وجمهورية مصر العربية بنسبة ٧.٥ % لكل منها، ثم دولة الإمارات العربية بنسبة ٥%، ثم المملكة العربية السعودية بنسبة ٢%. كذلك تأتى دولة قطر فى المقدمة من حيث إجمالى مساحة الأرض التى تتعرض للاجتياح البحرى بنحو ٢.٥% من إجمالى مساحتها، تليها تونس ثم الإمارات ثم الكويت ثم جمهورية مصر العربية.

وبالمقارنة مع دول العالم النامية الأخرى، موضع دراسة البنك الدولى، تأتى جمهورية مصر العربية فى المقام الأول بوصفها أشد دول العام النامى تضرراً من حيث النشاط الزراعى (نحو ١٢.٥% من جملة المساحة المزروعة) وعدد السكان المتضررين الذين سيهجرون أراضيهم (١٠% من جملة عدد السكان).

الدلتا.. غرق محتوم

تتركز أكثر مناطق مصر المهددة بالاجتياح المباشر للبحر فى الدلتا، تبلغ مساحة الدلتا الحالية نحو٢٤٤٥٠ كم٢، أى ما يعادل نسبة ٢.٥% تقريبا من إجمالى مساحة مصر، وتتميز بخاصية الهبوط المستمر عند أطرافها الرطبة الشمالية خاصة عند المصبات، وغالبية أجزائها الشمالية لا يتجاوز ارتفاعها صفراً عن منسوب سطح البحر بعمق إلى الداخل يتراوح بين ٧.٧ كم و٥٨.٥ كم على طول ساحل الدلتا، ومن ثم فسواحل الدلتا عرضة للتأثر بأى ارتفاع فى منسوب سطح البحر، سواء أكان هذا الارتفاع محلياً أم عالمياً.

وإذا كان الارتفاع المحلى فى منسوب سطح البحر محدود الأثر والزمن على سواحل الدلتا، فإن الارتفاع العالمى طويل الأمد وعظيم الأثر. وارتفاع هذا المنسوب عالميا بأى مقدار يزيد على المنسوب الحالى سوف يكون من شأنه اجتياح أو غمر الأراضى الساحلية الجافة والرطبة المنخفضة عن منسوب سطح البحر والمتصلة بالبحر اتصالا مباشرا دون أن وعزلها عن البحر عوازل طبيعية، أو تلك التى وعزلها عن البحر عوازل رقيقة أو ضعيفة أو سلاسل متقطعة من الكثبان الرملية تنتشر بينها الثغرات التى ينفذ منها ماء البحر.

اختفى الطمى.. فصار النهر عجوزا

يفصل الأراضى المنخفضة فى الدلتا عن البحر أحزمة متقطعة من الكثبان الرملية تمثل حواجز طبيعية يتراوح ارتفاعها بين ١.٥ متر و١٤ متراً فوق منسوب سطح البحر، كما يتراوح عرضها بين كيلو متر و١٠ كيلومترات على طول القوس الشمالى للدلتا الممتد بين بورسعيد شرقا وأبى قير غربا، وهذه الأحزمة نشأت من تراكم رواسب النهر من الرمل والغرين، التى كان النهر ينقلها عبر رحلته الطويلة من المنابع إلى المصبات فى دمياط ورشيد، ثم تقوم التيارات البحرية والهوائية بإعادة توزيعها على طول الساحل.

والمشكلة الراهنة هى أن هذه الأحزمة قد ضعفت بشدة وتضاءلت مساحاتها وكثرت بينها الثغرات نتيجة افتقادها إلى تدفق رواسب النهر من الرمل والطمى منذ بدء عمل السد العالى عام ١٩٦٩ من جهة، واستمرار هجرة الكثبان بفعل الرياح فى اتجاه جنوب شرق من جهة أخرى. فحمولة النهر منخفضة حاليا لدرجة العدم، وانتقال رواسب النهر إلى المصبات أصبح لا شىء تقريبا. بينما كانت حمولة النهر فى عام ١٩٦٤ قبل إغلاق ممر النهر أمام السد العالى فى أسوان تتراوح بين ١٨ و٥٥ مليار متر مكعب سنويا من الرواسب، من بينها رواسب الفيضان حيث بلغت ٣٤ مليار متر مكعب. كما كانت حمولة النهر من الرواسب المعلقة تقدر بنحو ١١١ مليار كيلو جرام سنويا، ٩٣ - ٩٨% منها كان يصل للمصبات خلال مواسم الفيضان.

والرواسب من حمولة النهر التى كانت تصب فى شمال الدلتا متنوعة وتشمل «٢٥% رمال، ٤٥% غرين (طمى)، ٣٠% طين». وقد عملت هذه الرواسب منذ نشأة الدلتا إلى تاريخ إنشاء السد العالى على زيادة خصوبة الدلتا، وتعويض النقص الناشئ من استمرار الهبوط السنوى وحماية الدلتا من تقدم البحر من خلال تكوين أحزمة من الكثبان الرملية على طول الساحل.

من ناحية أخرى، فإن سطح الدلتا يهبط سنويا بمعدلات غير متساوية بالنسبة لأطرافها نتيجة الوضع المنحرف لها. فالجانب الشمالى الشرقى من الدلتا أكثر انخفاضا من الجانب الشمالى الغربى، حيث يهبط بمعدل ٥ ملليمترات سنويا، بينما يهبط الجانب الشمالى الغربى بنسبة ٣ ملليمترات سنويا. أما وسط الدلتا فلا يتجاوز معدل الهبوط ٠.٤ ملليمتر سنويا، وسبب هذا الهبوط هو ضغط الرواسب المستمر على الصخور تحت السطحية، كذلك بسبب بعض الحركات الأرضية الموجهة بالفوالق. وهذا الهبوط المستمر فى ظل انعدام حمولة النهر يزيد من درجة ملوحة الأرض، كما يؤثر على المياه الجوفية، إلى جانب ما يترتب عنه من تعرض الجزء الساحلى من الدلتا لاجتياح البحر حال أى ارتفاع محلى فى منسوب سطح البحر، وإن لم يرتفع منسوب سطح البحر العالمى.

وقد ساهم انقطاع رواسب النهر بعد إنشاء السد العالى مع استمرار هبوط أطراف الدلتا فى ارتفاع معدلات نحر الشواطئ على طول القوس الشمالى للدلتا. فقد تآكلت بروزات الدلتا داخل البحر والتى يطلق عليها الألسنة فى كل من رشيد ودمياط. وبمقارنة بسيطة بين الخرائط الطبوغرافية للدلتا قبل إنشاء السد، والخرائط المصممة على أساس المعلومات الواردة بالأقمار الصناعية حاليا، يتضح أن هناك تغيرا مورفولوجياً واسعاً قد حدث فى كل من لسان رشيد ولسان دمياط، والأحزمة الرملية التى تفصل بحيرات البرلس والمنزلة عن البحر، وتلك التى تفصل البحر عن الأرض فى خليج أبى قير.

فلسان رشيد قد تعرض للتآكل بفعل عمليات النحر الشاطئية، كما تهالك الحزام الرملى الذى يفصل البحر عن الجزيرة الخضراء وبرج مغيزل، حيث ندرت الكثبان الرملية العازلة، وفقدت تماسكها، وانخفض منسوبها إلى أقل من ٢ متر فوق منسوب سطح البحر، واتسعت الثغرات البينية التى لايتجاوز منسوبها منسوب سطح البحر بين الكثبان، وأصبحت تشكل ممرات واسعة بين البحر والبرك الشمالية (الغليون والوسطانية والشقاقى والميتة) – الأمر الذى يعرض المنطقة الساحلية بين البحر شمالاً والجزيرة الخضراء - برج مغيزل جنوبا والتى تمتد طوليا بموازاة الساحل بنحو ٥.٥ كم وعرضيا بما يتراوح بين ١.٢٥ كم و١.٥ كم للاجتياح الكامل، حال زيادة منسوب البحر بمقدار متر. وسوف يؤدى ذلك إلى تقهقر مصب فرع رشيد إلى برج مغيزل، بالإضافة إلى زيادة ملوحة المياه الجوفية جنوب اللسان.

وأدت الهجرة المستمرة للكثبان الرملية فى اتجاه جنوب شرق بفعل الرياح، مع عدم ترسيب كثبان جديدة بديلة، إلى اتساع الثغرات البينية المنخفضة (بمنسوب صفر) بين الكثبان الرملية، مما أضعف الحزام الرملى الساحلى الواقع بين الجزيرة الخضراء غربا وكوم مشعل شرقا بطول ١٣.٥ كم، والذى يفصل البحر عن السهل الزراعى الواقع جنوبا والممتد فيما بين بحيرة البرلس والفرع الغربى لنهر النيل، الأمر الذى يهدد أراضى هذا السهل حتى فوة جنوبا، فى حالة زيادة منسوب البحر العالمى بأى مقدار، نظرا لانخفاض منسوبه عن منسوب سطح البحر. كذلك الحزام الرملى الذى يعزل بحيرة البرلس عن البحر فقد تهالكت مكوناته الرملية، وفقدت تماسكها على طول الساحل الممتد بين كوم مشعل غربا وقرية البرج شرقا، نتيجة استمرار النحر المستمر للشاطئ بفعل الأمواج، بالإضافة إلى هجرة الكثبان فى اتجاه البحيرة مع عدم تعويضها بكثبان جديدة منذ إنشاء السد العالى. كذلك الجزء الشمالى من الحزام الرملى لبحيرة المنزلة غرب عزبة البرج، والجزء الشمالى الغربى من نفس الحزام المعروف باسم «بر الدحرة» قد تهالكت مكوناته نتيجة الهجرة المستمرة للكثبان الرملية فى اتجاه جنوب ولم يعد قادرا على صد أى اجتياح لبحيرة المنزلة وماحولها حال ارتفاع منسوب سطح البحر. أما لسان دمياط فقد تم نحر الجزء البارز منه شمال مدينة رأس البر.

د. خالد عبدالقادر عودة فى سطور:

■ أستاذ متفرغ لعلوم الطبقات والحفريات بقسم الجيولوجيا – جامعة أسيوط.

■ نائب رئيس الفريق الجيولوجى الدولى للباليوسين– الإيوسين المنبثق من اللجنة الدولية لعلوم الأرض.

■ رئيس الفريق الجيولوجى المصرى فى المشروعات العلمية الدولية المشتركة فى جنوب مصر.

■ صاحب اكتشاف القطاع العيارى الدولى للحد الفاصل بين الباليوسين والإيوسين بقرية الدبابية جنوب الأقصر عام ٢٠٠٤- وهو الاكتشاف الذى ألقى الضوء على ظاهرة الاحتباس الحرارى.

■ أصدر المتحف الأمريكى للعلوم الطبيعية مجلداً خاصاً يضم أبحاثه خلال الفترة من عام ١٩٩٩ إلى عام ٢٠٠٣ بالاشتراك مع الفريق الدولى الذى اكتشف القطاع العيارى.

■ له أبحاث عديدة دولية فى مجالات علم الطبقات وعلم الحفريات الدقيقة، وأشرف على العديد من درجات الماجستير والدكتوراة فى مختلف الدول العربية.

■ ممثل مصر فى اللجنة الدولية لتطوير علم الطبقات التأريخى واللجنة الدولية لنشر علوم الحفريات الدقيقة.

نبذة عن الأطلس:

هذا الأطلس يضم أول دراسة علمية موسعة وتفصيلية لطبوغرافيا السواحل المصرية، التى يبلغ طولها نحو ٣٥٠٠ كيلو متر، بناء على المعلومات والبيانات المحدثة الواردة من مكوك البعثة الطبوغرافية للرادار بوكالة ناسا للفضاء، ويهدف إلى تعيين مواطن الضعف فى هذه السواحل وبصفة خاصة ساحل الدلتا، وعمليات النحر الطبيعى والتجريف البشرى، التى تعرضت له خلال الربع قرن الأخير، والبحيرات الشمالية وما تعرضت له من عمليات تجفيف وتقليص،

ثم تفصيل للمخاطر التى تواجه السواحل المصرية على خرائط طبوغرافية تم تصميمها لكل شاطئ من شواطئ هذه السواحل، مع تحديد مصادر التهديد فى كل ساحل، وتفصيل الثغرات التى تتخلل خطوط الشواطئ، والأحزمة الرملية للبحيرات والخلجان، والجسور الغربية لنهر النيل فرع رشيد، والجسور الشرقية لفرع دمياط، والجسور الغربية لقناة السويس، ومساحات الأراضى السكانية والزراعية والصناعية المهددة بالاجتياح، والمدن والأحياء والقرى والعزب والأراضى الزراعية المهددة بالحصار والانعزال نتيجة الاجتياح البحرى، بسبب الارتفاع العالمى لمنسوب سطح البحر عن المنسوب الحالى بحد أقصى متر واحد والسياسات الدفاعية، التقليدية وغير التقليدية، الواجب اتباعها لتلافى هذه المخاطر، أو الحد منها، أو التكيف معها.

أعدها للنشر على زلط ٢١/ ١٠

Friday, October 08, 2010

فصل واحد

كالجو السائد صارت الحياة. كالطقس. كالمناخ الذى انقلب. فصل صيفى يمتد طوال العام. بلا خريف. بلا شتاء.

نحن نعشق الصيف والربيع، وتولع دواخلنا بالخريف والشتاء. بكل الفصول الشتاء قارس. رغم ذلك ورغم وصف الخريف بالكئيب ورغم أشجار الشتاء العارية وألوانه الرمادية المعتمة، لكننا مولعون بالتغيير الذى يحدث، عندما تتحول الدنيا إلى عجوز طاعنة. بدواخلنا هوى لتلك العجوز الشتوية، العجوز تشعرنا بالأمان، تشعرنا بالدفء. نرتدى الصوف ونحتمى فى منازلنا أمام المواقد. يلتف الأطفال حول الجدة لتخبرهم حواديتها،

ويتجمع الأقارب سوية أكثر من أى وقت من السنة، فليس هناك الكثير من خيارات التنزه فى فصل البرد، لم نعد نشهد هذا الشتاء التقليدى، بعد أن ارتفعت حرارة الجو وصرنا نعيش فصلا أو فصلين صار طقسنا كحياتنا المكونة من فصل واحد. هو فصل الشباب. أما الكهولة فشطبها هوسنا بالجمال والشباب من القاموس الزمنى. لا أحد يريد أن يصبح عجوزا. ليست هناك امرأة تريد الاعتراف بأن عمرها قد تعدى الستين، كلهن يردن العودة مراهقات، يرتدن عيادات التجميل المنتشرة فى العالم العربى، ينفخن ويشفطن ويقضين على أجمل فصول العمر.

من الصحىّ والجميل أن تعتنى المرأة بنفسها فتبقى محافظة على وجه نضر وجسد ممشوق ونظام غذائى منتظم يعكس رقى حياتها، لكن من القبيح أن تمارس اضطهادنا، فتفقدنا مشهدها الدافئ فى الستين أو السبعين. وما الضرر لو جمعت الجسد الأنيق مع إبقاء علامات السن كما هى. لم يجهدون لاختراع كريمات إخفاء علامات السن؟!

ما عيب تلك العلامات.. ولم هى عدو لدود.. كيف لا نفاخر بعلامات وجودنا فى الدنيا، بعدد سنواتنا على الأرض؟!

أتناقش مع أصدقاء عن فقداننا نموذج جدتنا القديمة، التى زينت علامات السن وجهها ولم تحاول يوماً إخفاءها. اتفقنا جميعاً على أننا افتقدناها كامرأة تشعرك نظرة منها بأن الدنيا كلها تقف إلى جانبك، مشهد كبار السن مريح، ملمسهم باعث على الدفء، مشهدهم يبث الأمان والطمأنينة فى النفس ويبعد القلق. فالحياة مديدة وهناك أشياء كثيرة بانتظارنا، هناك أمور أخرى، سنقوم بها غير التنافس والتسابق على الأرشق والأحلى، هناك مستقبل سيكون حافلا بالمنجزات، حافلاً بالحكمة، مشهدهم يذكرك بألا تنشغل بتوافه المشاكل،

فمسألة عدم انسجامك مع الدنيا هى مسألة طبيعية مؤقتة عائدة لصغر سنك وحداثتك بها، كل ذلك سينتهى وسيصبح ماضياً، وسيحل محله هدوء وسكون وانسجام أبدى مع الدنيا. انظر لغالبية كبار السن وستجد فى قسماتهم ذلك التصالح العجيب مع الحياة بمحاسنها ومساوئها. دليله علامات التقدم فى الوجه، والتى شوهها مصممو الوجوه، فسموها (تجاعيد)، ستفهمك تلك العلامات أمورا كنت تجهلها عن الدنيا.

لكننا اليوم لم نعد نراهم كثيراً (على الأقل فى بعض المناطق)، فالستينى يصبغ شعره كل يوم، حتى لا يشيخ مطلقاً، والستينية لا تشيب ووجهها ملأته العمليات بطريقة تحيرك، إذ توحى بتصميم إنسانى جديد صنعه الأطباء، خلق غير طبيعى تحتاج مدة طويلة كى تستوعبه وتتعامل معه بأريحية دون أن تتفحص التواءاته وانتفاخاته المبتذلة كلما نظرت إليه، عمليات التجميل كشفت لنا أن نسبة مخيفة غير راضية عن شكلها الخارجى وغير واثقة منه، كشفت عن كراهية لا محدودة للتقدم فى العمر وخوف حقيقى منه.

لم يخافون الصعود والتقدم؟!

لأنهم لا يشعرون بالأمان. لا شىء فى بلداننا العربية مصمم للمتقدمين فى السن، كل شىء متوفر لأجل الشباب فقط، وكأن من يصل الستين قد انتهى وقته الافتراضى وأصبح غريباً أو فائضاً.

فى بلدان أخرى متقدمة ستجد أن كل ما بالحياة من مرافق مستعد لاستقبال العجوز حتى سنواته التسعين وحتى ما فوق المائة.. كل شىء متوفر لرجل وامرأة التقاعد. ليس لديهم خوف من ولوج هذا العمر المتأخر، بل بإمكانهم التباهى به. فكل ما أنجزوه بسنواتهم السابقة ستظهر نتائجه اليوم وستنتهى حياتهم وهم فى قمة هرم العمر.. وعلى العكس هنا، إذ لا شىء مهيأ لسنوات التقاعد.

البعض يموت نفسياً ويسقط نحو قاعدة الهرم عند الستين، وآخرون فى السبعين حتى لو كانوا نشطاء فيزيائياً. رغم أن العجوز الحقيقى برأيى هو فاقد القدرة على العطاء، عاجز عنه.. وفق هذا التعريف، ستجد أن العجائز يملأون الأرجاء العربية. عجائز فى العشرين وفى الثلاثين، يهملون أجسادهم ويرفضون تشغيل عقولهم. هل هناك كريمات لإزالة علامات الكسل والتجعد والتأخر عن التفكير؟!

فى الغرب تقود امرأة سبعينية أو ثمانينية دراجتها وتدور فى أنحاء المدينة بقمة نشاطها. وقد تتطوع بإحدى الجمعيات. ويبدأ السياسى المتقاعد رؤية مختلفة للحياة ويقرر خوض مشوار جديد وهو فى الثمانينيات. ونحن نقول للمتقدم فى العمر: (أحسن خاتمتك)، فنوجعه كل يوم بتذكيره بأنه على مشارف الموت. نعيب على امرأة طاعنة تفكر بحيوية، ونتساءل عن دورها بعد أن كبر أبناؤها وتزوجوا جميعاً.

لذلك هى لا تريد أن تشيخ، لكنى أريدها أن تشيخ ليزداد جمال المكان، أريدها أن تعلن الخريف لنرى الألوان النادرة، التى لا تظهر سوى بهذا الفصل الفنان، أريدها أن تعلن كل فصول العام لتتحقق العدالة ويصبح تعريف الجمال قرارها الخاص لا قرار التجار والأطباء، حيث أكتب مقالى الآن.. لا تعيش نسبة كبيرة من كبار السن، فالغالبية هم من الشباب والشابات. المكان الذى يخلو من كبار السن أو يخلو من مقومات الحياة المناسبة للكبار مكان مخيف. لا تثقوا به أبداً.

نادين البدير - Almasry Alyoum

albdairnadine@hotmail.com


المواطنة ليست وعظاً وتبشيراً

نقص فى الشعور بالمواطنة، وفائض فى الإحساس بالهوية الدينية. هذا هو، بشىء من التبسيط، جوهر الأزمة التى تفرز احتقانا دينياً متجدداً يشتد خطره كل يوم. بدأ هذا الاحتقان فى الظهور فى أوائل سبعينيات القرن الماضى. وعندما تبين أنه بات مقيما فى قلب المجتمع، وليس طارئا أو عابرا، أسميناه فتنة طائفية.

وكلما أنتج هذا الاحتقان نزاعاً صغيرا بين مسلم ومسيحى فى منطقة ما، أو صراعاً كبيراً تخرج بسببه مظاهرات على الجانبين، نجد أنفسنا أمام حقيقة مُرة وهى أن الكثير من الناس فى بلدنا يعتبرون أنفسهم مسلمين ومسيحيين أكثر مما هم مصريون تجمعهم المواطنة فى دولة مدنية.

وليس هذا عيباً فيهم بل فى الأجواء العامة السائدة فى مجتمع تنامت الهويات الفرعية فيه، وبصفة خاصة الهوية الدينية، على حساب الهوية الجامعة لأهله باعتبارهم مواطنين.

فهناك، إذن، أزمة عميقة تواجه المواطنة وترتبط بخلل فى بنية الوطن نفسه. فلا يمكن أن تتراجع المواطنة، وأن يكون الوطن بخير. فالمواطنة المعلولة تقترن عادة بداء يصيب الوطن فى مجمله، وليس جزءا فيه، ويسرى بالتالى فى أوصال الدولة.

وفى ظل هذا الداء، تفقد الدولة طابعها المدنى فى الواقع الفعلى، بالرغم من سعيها إلى التمسك به على مستوى الخطاب والشعار السياسيين. وهذا يفسر لماذا يزداد الاهتمام بالمواطنة على المستوى الرسمى فى حين تتراجع فى الواقع وتنحسر فى المعاملات بين الناس. فقد أضيفت المواطنة إلى الدستور وُوضعت فى صدارته، ولكن بعد أن صارت أضعف من أى وقت مضى منذ أن تبلورت الهوية الوطنية المصرية فى أواخر القرن التاسع عشر.

ولم يأخذ معظم المصريين هذا الاهتمام الرسمى بالمواطنة مآخذ الجد لسبب بسيط، وهو أن الكثير منهم لا يشعرون أصلا بأنهم مواطنون يتمتعون بكامل حقوقهم المدنية والسياسية.

فالمواطنة ليست كلمة توضع فى الدستور، وإنما واقع يعيشه الناس. ولو أن المصريين يمارسون حياتهم باعتبارهم مواطنين حقا، ما كانت هناك حاجة إلى كل هذا الاهتمام الرسمى الذى يغفل حقيقة جوهرية هى أن المواطنة لا تقتصر على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، ولا معنى ولا أثر لها فى الواقع إذا حُبست فى هذا الإطار. وهى، فى محبسها هذا الذى يُراد لها أن ترقد فيه الآن، تفقد محتواها الذى ينصرف إلى المساواة بين المصريين جميعهم الأقوياء فيهم والضعفاء، والأثرياء بينهم والفقراء، وليس فقط إلى المسلمين منهم والمسيحيين.

ولا يمكن لأى وعظ يَّبشر بأن المواطنة هى أساس العلاقة بين المؤمنين بأديان مختلفة أن ينتج أثرا فى الواقع إلا إذا كان الضعفاء من المسلمين والمسيحيين وفقراؤهم يُعاملون معاملة الأقوياء أصحاب السلطة والنفوذ والمال والجاه.

وفى هذه الحال، لن يبقى مبرر أصلا للوعظ الدعائى الذى يروَّج لمواطنة لا توجد حين يستطيع الأقوياء والأثرياء أن ينتهكوا القانون ويدوسوا على غيرهم ويشتروا كل شىء بأموالهم أو بنفوذهم. وحين يكون الإنسان نفسه مجالا لبيع وشراء، كما يحدث الآن فى بلادنا، يصبح الكلام عن المواطنة لغوا ويغدو الوعظ بها استهانة بعقول الناس.

وفى التاريخ الحديث، ومنذ فجر الدولة القومية فى أوروبا، لم تتحقق المواطنة فى أى بلد عبر الوعظ والتبشير ، ولا من خلال نصوص دستورية ومواد قانونية.

فالناس يتصرفون باعتبارهم مواطنين حين يكونون كذلك فعلا، وهم لا يكونون مواطنين إلا فى مجتمع يحصل الضعيف فيه على حقه كاملا إذا اغتصبه منه قوى، ويشعر الفقير فيه بالمقدار نفسه من الكرامة الذى يتمتع به الغنى، ويسود فيه قانون عادل دون تمييز.

وفى هذا المجتمع يتحرر الناس من القيود فيشعرون بآدميتهم ويفخرون بقدرتهم على المشاركة فى اختيار مستقبلهم ويتنافسون من أجل تقدم وطنه

د. وحيد عبدالمجيد

Almasry Alyoum

د. ممدوح حمزة يكتب: «إوعى تصحى يا عبدالناصر

صباح ٢٨ سبتمبر ٢٠١٠ تركت سريرى، بملاءته القطنية البيضاء من إنتاج غزل المحلة، وخلعت بيجامتى «جورج»، وغسلت وجهى بصابونة «شم النسيم»، وتبعت هذا بدوش لـطيف مستخدما صابونة «نابلسى». كنت أرجو أن تكون حلاقة ذقنى بموسى «ناسيت» لكن مصنعه أغلق.. ارتديت ملابسى الداخلية ماركة «جيل» وشرابا من إنتاج «الشوربجى» وقميص «سويلم» لينو «مصر البيضا»، وأخيراً البدلة «الاستيا» ثم كولونيا الشبراويشى «الثلاث خمسات» ووضعت قدمى فى حذاء من «باتا».

كل ما لامس جسدى فى هذا الصباح صنعته أيادى أولاد بلدى- سواء فى القطاع العام أو الخاص. ربما ليست الأشيك، وليست الأرق، وليست الأنعم، لكنها الأقرب إلى قلبى والأكثر قبولاً لعقلى وضميرى، فهى تجعلنى شريكاً فى منظومة تنمية مصر بالقدرة الذاتية، وهى التنمية التى تعمل أيضاً على رفع هذه القدرة الذاتية، وتجعلنى شريكاً فى الحفاظ على توازن الميزان التجارى، فكل مليم دفعته فى كل منتج يعود إلى أبناء هذا البلد.

لم أجد شقة بلدى فول أو شقة بلدى طعمية فى محل «نجف»- ولكنى كنت فى طريقى إلى ضريح عبدالناصر، وكان معى القرص والبرتقال.

أتأمل فى موروث الرجل فأجد أن التنمية بالقدرة الذاتية المصرية هى الموروث الأساسى الذى تركه جمال عبدالناصر، وهى نمط التنمية الحقيقية التى بدأها يوم ١٨ أكتوبر ١٩٥٢. أى أنه قبل انقضاء مائة يوم على قيام حركة الضباط الأحرار والتفاف الشعب حولها كان جمال عبدالناصر يقرأ دراسة جدوى ابتدائية عن مشروع السد العالى،

ثم كلف مجموعة من مهندسى الجيش المصرى، ومهندسى وزارة الرى، وأساتذة الجامعات من مختلف التخصصات لاستكمال الدراسة؛ لم يكلف بيت الخبرة ماكينزى أو بوزآلن كما يحدث الآن، فقد اعتبر السد العالى أهم مشروع تنموى فى مصر- وهو ما تأكد فى بدايات القرن الواحد والعشرين عندما اختارت المؤسسات العالمية المتخصصة السد العالى بوصفه مشروع القرن العشرين الأكثر خدمة للبشرية.

وبالرغم من امتناع البنك الدولى عن تمويل المشروع، ووقوف الولايات المتحدة والغرب صفاً واحداً ضده، لم يخضع الزعيم، ولم يهادن، ولم يردد عبارات الاستسلام الاستنكارية على شاكلة «هل سأحارب أمريكا؟» أو «كل أوراق اللعبة فى يد أمريكا»، بل استمر فى المشروع من أجل الشعب، واستمد قوته من عظمة وسمو الهدف، رغم الحرب الشعواء التى صوبت أسلحتها إليه، فاستطاع أن يكمل مسيرته وكان الشعب هو مصدر استقوائه.

إن المتابع لحركة وتطور الثورات فى العالم يرصد غالباً تفرغ الثوار خلال السنوات الأولى لترسيخ قواعد الحكم والسيطرة، وتأجيل مشروعات التنمية حتى يتم الاستقرار السياسى خوفاً من سقوط الثورة. أما فى الحالة المصرية فقد تبلور إصرار الزعيم على بناء السد العالى، كقاطرة للتنمية الزراعية، والصناعية، والبشرية، سابقاً للتخطيط لترسيخ السلطة. هذا رغم كل ما تبعه من عواقب مصيرية، ونتائج إستراتيجية، كان من أبرزها التوجه نحو الشرق، وتأميم قناة السويس، وعدوان ١٩٥٦. كان يعلم جيداً أن فشل المشروع هو فشل نظامه بالكامل، ومع ذلك آثر المضى فيه وفى التنمية، وهو يعلم أنه يهدد بقاءه، أى أنه قدّم، وبوضوح، مصلحة الشعب على مصلحة حكم حركة الضباط الأحرار.

كان مشروع السد العالى قاطرة التنمية فى مصر: هذه أبسط إجابة يمكن أن نرد بها على تساؤل «ماذا قدم السد العالى لمصر؟» كان مدرسة تخرج فيها أكفأ المهندسين الذين خدموا البلاد طوال الثلاثين عاماً اللاحقة، وكانوا أيضاً سفراء التنمية فى أفريقيا والبلاد العربية، ونشأت لأجله شركة المقاولين العرب، بالتزاوج الذى حققه عبدالناصر بين شركتى مصر للأسمنت المسلح وشركة المشروعات الهندسية (عثمان أحمد عثمان)،

كما ولدت له شركات هايدليكو وكهروميكا وإليجيكت. لم يكن السد العالى خزانا فقط، أو مجرد مشروع لتحويل مجرى النهر وإنشاء أكبر بحيرة صناعية فى العالم وتوليد الطاقة وزيادة الرقعة الزراعية، وإنما كان معملاً لتفريخ الكفاءات الهندسية التى تمكنت من حرفة صناعة الإنشاءات والسدود خارج مصر وداخلها، فصار لدينا جيل هندسى رفيع المستوى.

وليس هناك وجه للمقارنة بين السد العالى (١٩٧٠) من ناحية، وبين سدّى إسنا (١٩٩٠) ونجع حمادى (٢٠٠٨) من ناحية أخرى، فسدّا إسنا ونجع حمادى لا يصلان، معاً، لأكثر من ١٠% من حجم أعمال السد العالى أو صعوبتها، ومع ذلك عهد إلى شركة إيطالية بإنشاء الأول، وشركة فرنسية/ألمانية بإنشاء الثانى، وكان المصريون مجرد فواعلية فى المشروع، ولم يثمر أى من السدين خبرة هندسية ولم تولد منهما شركات عاملة فى هذا المجال كما حدث مع السد العالى، وسُجل هذان السدان كخبرة سابقة لمكاتب استشارية وشركات مقاولات أجنبية ولم تسجل خبرة تراكمية لمصر، والخبرة التراكمية هى أساس تصدير صناعة الإنشاءات.

وعلى طريق التنمية أيضاً، بدأ الزعيم جمال عبدالناصر مشروع الطاقة النووية فى إنشاص عام ١٩٥٨، بعد قيام الثورة بست سنوات، وبعد نحو عام كان مشروع الصواريخ المصرى قد بدأ على يد العلماء، والخبراء، والمهندسين، والعمال، (بالاستعانة بالخبرة الألمانية).

وكانت التنمية على أرض مصر مصدر إزعاج للآخرين، ففى زيارة لأحد المسؤولين الأمريكيين عند بداية الثورة، سُئل جمال عبدالناصر عن نواياه تجاه فلسطين المحتلة وإسرائيل، وكان رد عبدالناصر «نحن نركز على التنمية وليس هناك مجال الآن للتفكير فى إسرائيل...»، وتم نقل هذه الإجابة حرفياً إلى بن جوريون فأصيب بصدمة وأخذ يردد «هذا أسوأ ما سمعت»، فكان يعلم تماماً أن التنمية هى التقدم وهى القوة. ولكن التنمية الحقيقية القائمة على القدرة الذاتية، وليس على المعونات والخبراء الأجانب، هى التنمية التى ترفع قدرة أبناء هذا البلد، فيكون الناتج من أى مشروع ليس فقط تنمية أو تشكيل الحجر، وإنما فى الأساس تنمية البشر حيث الثروة الحقيقية.

كان عبدالناصر يعلم تماماً مدى أهمية التنمية الحقيقية، ولذلك جاء عصره بتنمية لم ترها مصر منذ أربعة آلاف سنة. وتوقفت بعد عام ١٩٦٧، ويجرى تدميرها بشكل ممنهج منذ عام ١٩٧٤.

فى عام ١٩٥٤ أنشئ معهد بحوث البناء برئاسة الدكتور عزيز يس، وفى ١٩٥٦بدأت أبحاث مشروع دراسة القرية المصرية الذى كانت تخطط له وترعاه وزارة الشؤون البلدية والقروية بقيادة الدكتور شفيق الصدر وعين لهذا الغرض الثلاثة الأوائل من خريجى أقسام عمارة ومدنى من كليات الهندسة الثلاث بالجامعات المصرية، وأعرف منهم صلاح حجاب، شيخ المعماريين وحامل مفاتيح وذاكرة الهندسة فى مصر والمنطقة.

وذهب شباب الخريجين لعمل مسح شامل للقرى موضوع البحث، وكان المهندسون حديثو التخرج يقيمون فى كل قرية، بالمركز الاجتماعى التابع للمجلس القومى للخدمات الذى رأسه الدكتور عزيز صدقى. وتم إعداد مشروع تنمية القرية المصرية، فبدأ فى عام ١٩٦١، بميزانية تصاعدية تصل إلى ٩٠ مليون جنيه فى السنة، وكانت الفترة التى يحتاجها المشروع ٣٠ سنة، أى ينتهى عام ١٩٩١. وتم عرض المشروع على هيئة الأمم المتحدة، وحاز التقدير والاعتماد - إلا أنه توقف عند حرب ١٩٦٧.

ويُذكر فى هذا السياق أن المركز القومى للبحوث، سنة ١٩٥٦، كان يضم قسماً للطاقة الشمسية فى استخداماتها المختلفة، وكان أحد مشروعاته إنتاج «راديو» يعمل بالطاقة الشمسية لكى تصل الإذاعة إلى كل قرية فى مصر، بل إلى الشعب العربى كله قبل وصول الكهرباء! هذا هو التنوير الذى تتطلبه التنمية بالقدرة الذاتية.

وتم أيضاً، إنشاء مصانع الراديو الترانزستور، وأيضاً أجهزة التليفزيون، فبدأ البث عام ١٩٦٠ فى كل بيت مصرى قادر على اقتناء التليفزيون، عن طريق أجهزة تليفزيون صناعة مصرية.

وبالتوازى بدأ عبدالناصر فى إنشاء شركة التعمير والمساكن الشعبية، برئاسة المهندس على نور الدين نصار، لتوفير سكن مناسب لمحدودى الدخل، كما أنشأ مطار القاهرة عام ١٩٥٨ بمسابقة معمارية علنية فاز بها المعماريان المصريان، صلاح زيتون، ومصطفى شوقى، وهو المبنى والمشروع الذى يحق لنا أن نفخر به، على العكس من مبانى المطار الجديد التى قامت بتشييدها شركات هولندية وتركية بعد نصف قرن من مشروعنا الأصلى.

وكان مشروع مديرية التحرير، ذلك المشروع الزراعى العملاق، الذى تم توصيل مياه النيل إليه، وكانت تهدر فى البحر منذ قديم الأزل، ومشروع الوادى الجديد الذى اعتمد على المياه الجوفية. وبدون أصوات زاعقة، أو إعلام متصنع، بدأت الهيئة العامة لتعمير الصحارى، التى أنشئت عام ١٩٥٧، العمل فى الوادى الجديد، وكان يخطط لها الدكتور أحمد أمين مختار، رئيس قسم التخطيط بجامعة الأزهر،

بينما شكل لواء من سلاح المهندسين بالجيش المصرى السواعد التى قامت ببناء مجموعة كبيرة من القرى فى الوادى الجديد، وما زال بيننا المهندس القدير، حسين إدريس، الذى قضى شبابه شاهداً على هذه الملحمة. وتم فى نفس الوقت بناء مجموعات من القرى، فى عدد من المحافظات، أتذكر منها قرية أبيس جنوب الإسكندرية، وقرية كوتا على طريق الفيوم.. وغيرهما.

كانت هناك حقيقة مؤكدة وهى أن ٧٠% من سكان مصر هم أهل ريف، وبالتالى كان لا بد من الاهتمام بهم وبناء قرى جديدة لهم قبل الاهتمام بتشييد مدن جديدة، فالـ٧٠% أولى بالرعاية والاهتمام من الـ ٣٠%. وظنى أنه لو استمر مشروع تنمية وبناء القرى هذا لكانت مدن مصر اليوم بدون العشوائيات التى يسكنها النازحون والناتجة عن إهمال الريف.

لم يكن الاهتمام ببناء القرى الجديدة هو مجمل اهتمام ثورة يوليو فى إطار خطة التنمية العمرانية والسكنية، وإنما كان هناك بالتوازى عدة مشروعات لبناء مساكن للعمال بالمناطق الصناعية، ومنها إسكان العمال فى إمبابة، وإسكان العمال فى حلوان، وإسكان شركة كيما، وغيرها من مساكن العمال بالمحلة الكبرى، وكفر الدوار، وكافة المناطق العمالية فى مصر، وإسكان الطبقات الوسطى مثل إسكان زينهم، والبالون، وجسر السويس (الألف مسكن)، وكان هناك أيضاً مشروعات تنمية عمرانية سكنية فى مدينة نصر والمقطم والمعادى والمنتزه والمعمورة.

سعى عبدالناصر فى طريق التنمية الشاملة، أى التنمية العمرانية والزراعية والصناعية، فأنشأ مصانع الحديد والصلب، ومجمع الألومنيوم بنجع حمادى، ومصانع الأسمدة، والأسمنت، والغزل والنسيج، والكيماويات. وتم رصد كل ذلك وعرضه على الشعب المصرى من خلال مجلة «بناء الوطن» الشهرية، وعبر عنه صلاح جاهين فى حينه قال «مكن مكن مكن.. كلنا عاوزين مكن»، وكل ذلك بالقدرات الذاتية: اعتمد على التمويل الذاتى لمعظم المشروعات، كما اعتمد على خبرات أهل البلد ليحقق التنمية البشرية ضمن ما حققه.

ووسط هذا الزخم كان عبدالناصر ناصراً للحركات الوطنية التحررية بالوطن العربى، وأفريقيا، بل وأمريكا اللاتينية، ونصيراًَ لكل الشعوب النامية، وكان مناراً للتنمية والتقدم فى آسيا. أكثر من أربعين حركة وطنية تحررية كان لها ملاذا آمنا، وصدرا حنونا، ودعما، فى القاهرة، وتحديداً فيلا رقم «٥» شارع أحمد حشمت بالزمالك.

نيلسون منديلا، مثلاً، نام على مرتبة على الأرض فى هذه الفيلا، وقدمت مصر كل أشكال الدعم للثوار وقادة حركات الاستقلال، فكانت هناك ٤٥ إذاعة موجهة لأفريقيا باللغات المحلية، ولم ينس عبدالناصر الأهمية الاستراتيجية لحوض النيل، حيث واصل دعم دول الحوض بمختلف الأشكال،

وأنشأ شركة النصر للاستيراد والتصدير فأصبح لها ٢٥ فرعاً فى خدمة التنمية، وذهب مهندسو مصر للتعمير فى هذه البلاد. واستحضر فى هذا السياق، مقولة المهندس المعمارى البارع، رمزى عمر، أحد جنود مصر البواسل فى معركة تنمية القارة السمراء وتعميرها، الذى يؤكد أن أعلى مبنى فى كل عاصمة أفريقية عمرّها كان بالضرورة بناءً مصرياً خالصاً.

وذهب أيضاً المعمارى مصطفى شوقى، مسلحاً بخبرة مطار القاهرة، ليشيد أكبر وأعلى مبنى فى الجزائر العاصمة، والذى ما زال هو أهم وأكبر فندق، وتم إنشاؤه بعد الاستقلال مباشرة فكان نموذجا لتنمية عبدالناصر خارج البلاد. هل يعلم المصريون أن الجامعة الوحيدة فى كوناكرى، عاصمة غينيا، هى جامعة جمال عبدالناصر؟ وهل يعلم المصريون أن فرنسا أرسلت وفداُ عالى المستوى إلى جمال عبدالناصر خوفاً لتراجع نفوذهم فى أفريقيا وازدياد نفوذ مصر؟ ووراء كل هذا دعم عبدالناصر للتنمية فى أفريقيا.

لقد طرق الزعيم جمال عبدالناصر كل أبواب التنمية، فشرع فى برنامج الصواريخ وانتهى من إنشاء مصنع متكامل لهذا البرنامج، يضم نحو ١٠٠٠ مهندس وعالم وفنى، وأنشأ برنامج تصنيع الطائرات بين مصر والهند، وكان نصيب مصر فى هذا البرنامج هو تصنيع الموتور (وهو الجزء الأصعب)، ودعم أقسام هندسة الطيران والطاقة النووية فى كليات الهندسة فى الجامعات المصرية.

كل هذه الخواطر والذكريات مرت أمامى وأنا أزور قبر الزعيم، حيث كانت جموع المواطنين المحتشدة، معظمهم جاء الدنيا بعد رحيل عبدالناصر. شدت انتباهى سيدة فى منتصف الثلاثينيات من العمر، تحمل طفلاً لم يتجاوز عامه الثالث، دخلت إلى القاعة الكبرى مع كبار الزوار، كما لفت نظرى أيضاً رجل أربعينى جلس القرفصاء أمام القبر، أخذ ينادى «اصحى يا عبدالناصر». ولو صحى عبدالناصر اليوم لمات بالحسرة عشرات المرات إذا شاهد معنا بيع المصانع التى أنشأها، والتى كُهِن مكنها، وطُرد عمالها، ثم بيعت أرضها عقاراً وهُرّبت أموالها.

وإذا شاهد معنا عمليات منح أراضى الدولة للمحظوظين والأقرباء، ثم بيعها للأجانب، وتصدير الأموال للخارج. وإذا رأى انتشار أمراض الكبد والكلى والسرطان والأنيميا والاكتئاب، وأزمات القمح والطاقة والغلاء. بالإضافة إلى الظواهر الاجتماعية المرضية من انتحار وقتل الآباء والأبناء وزنى المحارم وأطفال الشوارع وسكان العشوائيات والقبور.

عدت لأسأل نفسى هل كان الزعيم جمال عبدالناصر سيفرح بمطار القاهرة الجديد الذى بناه الأتراك وصممه الهولنديون وأشرف على تنفيذه اللبنانيون؟ ونحن المصريين نكتفى بأن نكون ركاباً فى صالات السفر والوصول؟ هل كان سيفرح أن مترو أنفاق القاهرة، الذى بدأت دراسته على يد الدكتور على صبرى، أستاذ ميكانيكا التربة والأساسات عام ١٩٥٧، علاقتنا به هى أيضاً علاقة المستخدم؟ وأن تصميم وتنفيذ مراحله الثلاث كانا بأيادٍ أوروبية؟ بل ومعظم تمويله أيضاً من الخارج؟

بنى عبدالناصر، على أطراف القاهرة سنة ١٩٦١، أرضاً للمعارض، بديلاً عن أرض المعارض بالجزيرة، وكان هذا عن طريق مسابقة معمارية معلنة، فاز بها الدكتور عبدالباقى إبراهيم والدكتور يحيى الزينى والدكتور فؤاد الفرماوى.

أما اليوم، فيراد ضم هذا المشروع إلى قاعة المؤتمرات التى شيدها الصينيون، من خلال مسابقة معمارية سرية، لم يعلن عنها، ولم يدخل فيها مصرى بكيانه، والغريب أن الجهة التى أدارت هذه العملية هى نفس الجهة المسؤولة عن التنافسية ومحاربة الاحتكار والشفافية، وسوف يزرع هذا المشروع قنبلة زحام مرورية فى قلب القاهرة.

هل سيفرح جمال عبدالناصر حين يعرف أن مصر تسير فى طابور «للخلف در»؟

كان جمال عبدالناصر يستعين بأهل الخبرة، فلم يكن مصطفى خليل وزيراً للنقل وهو فى الثلاثينيات من عمره إلا لأنه كان كفئا لهذا المنصب، لم يكن عسكرياً ولم يكن من الضباط الأحرار، وكذلك الدكتور عزيز صدقى، والمهندس صدقى سليمان وحلمى السعيد وعزيز يس ومحمود أمين عبدالحافظ.. كلهم كانوا من الأكفاء الدارسين.

وكذلك لم يكن وقوف عبدالناصر لمدة ١٠ ساعات كل يوم عيد علم لتكريم المتفوقين والمبدعين واحداً تلو الآخر سوى احترام للعلم والعلماء، احتراماً من النظام بالكامل، النظام الذى عمل من أجل صالح الشعب، وليس نظام تجارة الأراضى وتسقيعها والاعتماد على الأجانب فى كل شىء حتى برامج تحديد النسل وتطوير التليفزيون - فهل يعقل أن التليفزيون الذى بدأه عبدالناصر بالكفاءات المصرية عام ١٩٦٠، يؤتى بشركات أجنبية لتطويره عام ٢٠٠٦؟ وليته تطور!!

عدت ثانية إلى حيث أقف.

مات عبدالناصر ولن يعود ثانية. ولكنى أتوقع أن تتحول أفكاره وأسلوبه فى التنمية إلى رسالة تؤمن بها الدول النامية، بعيداً عن البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، وأن تتحول كلمات صلاح جاهين، التى أنشدها عبدالحليم حافظ «من أموالنا بإيد عمالنا» إلى شعار لتحقيق التنمية المنشودة، التنمية الحقيقية المستدامة.

خلا بنا نظام عبدالناصر فى جوانب الحرية الشخصية وزوار الفجر والتعذيب فى السجون.. والعزاء الوحيد أن هذا النظام السلطوى أنشئ لخدمة برنامج قومى للتنمية الحقيقية، وقد ضُرب البرنامج التنموى فى عام ١٩٦٧ بخطة محكمة من الغرب وبتنفيذ إسرائيل، ثم ألغى هذا البرنامج تماماً منذ ١٩٧٤، بل تحول مسار البلد إلى العكس، ولكن وللأسف الشديد، استمر النظام السلطوى، استمر لخدمة برنامج آخر معاكس تماماً لبرنامج عبدالناصر التنموى.

لم ينجح الغرب مع عبدالناصر (كما نجح مع محمد على سنة ١٨٤٠) فى إيقاف التنمية والتوسع مقابل توريث الحكم لأبناء الحاكم، فكان لا بد من ضربه هو ونظامه فى ١٩٦٧، فانتهت التنمية الحقيقية واستمر النظام السلطوى بدون عائد.

فى طريق عودتى، لم أجد زجاجة لبن «مصر للألبان» ولا شيكولاتة «بيمبو»، فقد تم إغلاق محل «استرا» بميدان التحرير واحتل مكانه «أمريكانا».

لكنى، وأنا أقف عند قبر الزعيم، والخواطر تذهب وتجىء فى ذهنى ووجدانى، وجدتنى أقول: كفانا بكاء على الحليب المسكوب، ولنقم بدورنا فى بناء التنمية من جديد، التنمية بأسلوب عبدالناصر، وبأسلوب طلعت حرب. وقفت عند قبر عبدالناصر وتأملت: ماذا لو أنشأنا مشروعاً أهلياً للاستثمار والتنمية، يبدأ من الشعب ويعود إلى الشعب؟

Almasry Alyoum